يشار كمال روائي الشعوب المقهورة

لم يغادر الروائي الكردي التركي يشار كمال هضاب الأناضول ووعورة جبال طوروس وحقول منطقة تشوكوروفا التي نشأ فيها، بل بقي أميناً لتلك البيئة الريفية البسيطة، ناقلاً حكاياتها وأساطيرها وخرافاتها حتى سمي بـ (رائد الأدب الريفي)، ليصل عبر سرد فني آسر إلى العالمية. لم يطرق الفتى، الذي عمل في حقول القطن وفي أعمال البناء والحراسة وقاد الجرارات الزراعية، وتنقل بين مهن مختلفة، أبواب الشهرة، فجلّ ما فعله هو أنه بقي ملتصقاً بحرارة الواقع المحلي، وبتلك البقعة الجغرافية الزاخرة بالإثنيات والأعراق واللغات، وبالفلاحين والكادحين والرعاة. كان يروي، في البداية، حكاياته شفاهياً، إلى أن احترف الأدب، فنشر نحو أربعين كتاباً ترجمت إلى لغات عدة، وهو بذلك حوّل تشوكوروفا إلى قرية أسطورية عالمية، تماماً كما فعل غابرييل غارسيا ماركيز الذي منح قريته (ماكوندو) المنسية بعداً كونياً عبر (نزوة القص المباركة)، عنوان أحد كتبه.

ترجمت رواية يشار كمال (ميمد الناحل)، باكراً، إلى اللغة العربية، وفي ظلّ ازدهار اليسار، نسبياً، وقلة الترجمات من التركية التي كتب بها الروائي الكردي أعماله، راجت هذه الرواية على نحو واسع، ووجدت مكاناً في كل مكتبة، وشكل الاهتمام بها مؤشراً على انشغالات المثقف العربي وهمومه، وعلى حصافته، كذلك. الرواية، التي صدرت منتصف خمسينات القرن العشرين، تتحدث عن بطل مهزوم مهمش يضطر إلى العيش متخفياً بعد ثورته على الزعماء الإقطاعيين. وقد حولت الرواية عام 1984 إلى فيلم أخرجه الممثل والكاتب المسرحي البريطاني بيتر أوستينوف.

تجري أحداث الرواية في قرية غافية على إحدى هضاب طوروس، يملكها إقطاعي يستغل جهد الفلاحين الفقراء. لكنّ الفتى ميمد الناحل، بطل الرواية، يثور على هذا الظلم، إذ يصيب الإقطاعي ويقتل أحد أقاربه ليصبح، لاحقاً، رمزاً للتمرد، يعيش كشخصية أسطورية في سهول الأناضول، محبوبة من الفلاحين و(قطاع الطرق) النبلاء. الرواية، بهذا المعنى، تعبير عن المقاومة العفوية النبيلة ضد المستغلين والانتهازيين والسلطات المحلية، وتجسيد لانحياز يشار كمال إلى البسطاء والفقراء.

هذه النزعة الإنسانية تكررت في معظم أعمال صاحب (حديد الأرض، نحاس السماء)، كما هي الحال في رواية (صفيحة) التي تستلهم مناخاتها من طبيعة الحياة في الريف التركي حيث العلاقات القائمة على المكر والخداع والابتزاز، ومحاولات طبقة الإقطاع خرق القوانين، وإخضاع الفلاحين، بالترغيب حيناً والترهيب أحياناً، في سبيل الحصول على المزيد من المكاسب والأرباح لتزداد هذه الطبقة ثراء، فيما يرزح الفلاحون تحت نير الفقر والاستعباد.

صراعات الريف

تتناول رواية (صفيحة)، طبيعة الصراعات التي شهدها الريف التــــركي في الأربعينيات والخمسينيات مــــن القرن الماضي، إذ يتخذ الروائي مـــن قرية تركية واقعة في منطقة تشوكوروفا نموذجاً لتصوير مدى فداحة الغبن الذي لحق بالفلاحين، بسبب الممارسات العدوانية التي كانــــت تقوم بها طبقة الإقطاع التي لم تكن تراعي أي مبدأ أو عرف سوى مراعـــاة الشهوة العارمة إلى المال. رغم أن الرواية، في خطوطها العريضة، تعيد إنتاج مقولات تلك الحكاية التقليدية الأزلية التي تظهر الصراع بين الخير والشر، غير أن يشـــار كمال يمنح روايته خصوصية تجــعلها مختلفة عن تلك الحكايات التي صورتها الفنون المختلفة في ثقافات الشعوب. فالروائي هنا يسعى إلى التقاط خصوصية البيئة التركية بمفرداتها، ولغتها وروحها متوسلاً سرداً قائماً على المفارقات، عبر وصف غارق في الفضاء المحلي، وحوار خالٍ من التزيين والتنقيح، وشخصيات مرسومة في قالب متقن لا يمكن العثور عليها إلا على ذلك المسرح التركي الحزين الذي يختاره يشار كمال مكاناً لأحداث الرواية.

تعرض يشار كمال، الذي رشح مراراً لجائزة نوبل، للانتقاد من أبناء جلدته الأكراد ممن عابوا عليه إعجابه العابر بحداثة مصطفى كمال (أتاتورك)، بيد أنه سرعان ما عدل موقفه حين وجد القمع التركي، وخصوصاً إبّان سنوات الكفاح المسلّح الذي خاضه حزب العمال الكردستاني منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين في سبيل انتزاع حقوق الأكراد في تركيا. وفي الأشهر الأخيرة، ومع تصاعد نبرة الحديث عن سلام منتظر بين تركيا وأكرادها، كان يشار كمال أول المرحبين بهذه الخطوة التي من المنتظر أن تقرّ حقوق الأكراد دستورياً. ولم يقتصر الانتقاد على هذا الجانب، بل رأى بعضهم في كتابته باللغة التركية خدمة للأدب التركي وعقوقاً تجاه لغته الأم. والحال أن هذا الانتقاد يبدو ساذجاً في ظل الحظر المحكم، المفروض على اللغة والثقافة الكردية في تركيا. فضلاً عن أنّ يشار كمال، الذي نشط في صفوف اليسار التركي، لم يكن بعيداً، البتة، عن هموم ومعاناة الأكراد، لكنه، في الآن ذاته، لم يكن يميل إلى الشعارات الصاخبة والنبرة العالية. ولئن حفل أدبه برموز الفلكلور وأناشيد الرعاة والقرويين والسير الشعبية، فإنه خلا من التعبير السياسي المباشر و(الأدلجة الفجة)، ومع ذلك تعرض صاحب (استياء البحر) لمحاكمات كثيرة ولعقوبة السجن بعد الانقلاب العسكري عام ،1971 وعاش في المنفى سنوات عدة في السويد.

قضايا الإنسان

كان كمال مناصراً للقضايا العادلة في بعدها الإنساني الرحب، وقد سخّر قلمه للتنديد بالظلم الاجتماعي، وتمجيد كفاح الفقراء ضدّ التسلط والحرمان، وهو ما يعني ضمناً انحيازه – الذي لا يحتاج إلى دليل إثبات – إلى قضية شعبه المضطهد. وتجلى ذلك في أكثر من عمل، وبصورة خاصة في رواية (أسطورة جبل آغري) التي يستلهم فيها أجواء الملاحم الأسطورية التي تحفل بها ثقافات العالم.

يقدّم يشار كمال، هنا، نصاً مأسوياً، أقرب إلى السير الشعبية التي تروى شفاهاً ويتوارثها الأجيال، وهو يختار رقعة جغرافية معروفة: جبل آغري والمناطق الكردية المحيطة به مثل وان، هكاري، موش، تبليس… والقرى المتناثرة على السفوح في جنوب شرق تركيا حيث يقطن الأكراد. يغزل خيوط حكايته في هذا الفضاء المتخم بالعادات والتقاليد والطقوس والأعراف حيث القدر يصنع المصائر، والأعراف تحدد السلوك والممارسات.

(أسطورة جبل آغري) تتناول في خطوطها العامة قصة حب ربطت بين أحمد وكولبهار (زهرة الربيع، بالكردية) ابنة أحد الباشوات الأكراد الموالي للعثمانيين. تستحضر الرواية روح الثقافة المحلية، وتتوغل في خبايا الذهنية الريفية. وككل التراجيديات التي تتناول قصص الحب، تنتهي حكاية يشار، كذلك، بعد مغامرات وتضحيات، بمأساة مماثلة. تنتهي قصة الحب على ضفاف بحيرة كوب في أسفل جبل آغري، إذ غاب العاشق في زرقة البحيرة وبقيت كولبهار تنتظر عودة (أوليس) من البحار عبثاً. وإلى الآن (عندما ينتفض الكون من سباته، ويزهر فصل الربيع كل عام، يأتي رعاة جبل آغري من كل الجهات. يخلعون عباءاتهم ويلقون بها فوق التراب النحاسي للبحيرة ويجلسون فوقه، فوق تراب المحبة الذي عمره ألف عام)… ومن خلال شدو ناياتهم الحزينة يستعيدون قصة حب جبل آغري وغضبه، وهي قصة تحمل في ثناياها بعضاً من معاني عيد «(النوروز)، العيد القومي للأكراد.

لا يمكن اختزال السيرة الفنية الغنية لصاحب (قصة جزيرة) في مقالة، لأنّ يشار كمال استطاع في تجربته، التي تجاوزت نصف قرن، أن يمنح الفن الروائي بعداً محلياً وملحمياً في آن، وهو اشتغل على نصه الروائي بوصفه نسيجاً محكماً لاذعاً، قادراً على تحويل الحكايات المبذولة، بلا عناء، إلى قطعة فنية مروية بغنائية عذبة تحفر عميقاً في الوجدان والذاكرة. فكان رحيله بمثابة رحيل آخر الروائيين الكلاسيكيين، وفق تعبير أحد النقاد. وثمة من رأى – في إشارة إلى المكانة الأدبية الجليلة للكاتب – أن جائزة نوبل هي التي خسرت كاتباً بقامة يشار كمال الذي لم يتأفف من ذهاب الجائزة إلى مواطنه أورهان باموق، بل كان أول المدافعين عنه عندما تعرض لملاحقات لأنه تحدث عن مجازر إبادة طاولت الأرمن مطلع القرن العشرين، وهي تمثل (تابو) بالنسبة إلى تركيا.

في رسالة كتبها يشار كمال، قبل أشهر قليلة، وتليت خلال مراسيم منحه شهادة الدكتوراه الفخرية في جامعة بيلك في اسطنبول، يقول الكاتب: (إن الذي يقرأ كتبي لا يمكن أن يصبح قاتلاً، يجب أن يكون عدواً للحرب، ويجب أن يواجه استصغار الإنسان للإنسان. يجب أن لا ينظر أحد إلى الآخر على أنه أقل شأناً ويحاول محوه). ويطالب الروائي الراحل قرّاءه بالتآلف مع الفقراء، ويقول (إن الذين يقرؤون كتبي ليتوحدوا مع الفقراء. الفقر عار على الإنسانية جمعاء. يجب أن يطهر قرائي أنفسهم من جميع المساوئ).

ربما كان ذلك اختزالاً للعالم المثالي، المؤجل، الذي طمح إليه صاحب (باب القلعة) عبر أعماله كافة، ولئن رحل بصمت، إلا أنّ ضجيج حروفه وكلماته ستظلّ تؤرق ليل الانتهازيين والمستغلين والطغاة.

«الحياة»

العدد 1105 - 01/5/2024