المجد لكفاحك ولعذاباتك أيها المبدع الكبير..

لعلّ أفضل احتفالية بكاتبٍ بقيمة حنا مينه وبمكانته في الرواية العربية والعالمية أن نعيد قراءة أعماله أو بعضها، وقد فعلتُ ذلك بمناسبة العيد الحادي والتسعين لميلاد هذا الروائي الكبير، والإنسان المكافح، والمناضل الشيوعي، الذي ما زال يعلن انتماءه إلى الفكر الماركسي والتزامه بمصالح الفقراء في وطنه وفي العالم أجمع.

تخيّرتُ من بين أعمال الكاتب روايته (السيرذاتية) (بقايا صور)، لما فيها من قدرة على النمذجة والتعميم لحالة المجتمع السوري في عشرينيات القرن الماضي، من خلال أسرة عانت مرارة الفقر والتشرد والحرمان، هي أسرة الكاتب المؤلفة من أب متشرد وأم مكافحة وثلاث بنات وطفل وحيد هو الكاتب حنا مينه دون لبس.

طفولة معذبة شقية عاشها حنا في كنف أسرة انتقلت من اللاذقية في عشرينيات القرن الفائت لتحل في إحدى قرى لواء إسكندرون، فيطول تشتتها في قراه ومدنه، متحملة شتى ألوان العذاب والحرمان حتى العيش تحت شجرة توت في عرض الشارع مدة ثلاثة أشهر، ومرض الأم (القديسة) حتى المشارفة على الموت، الأم التي تحتضن أطفالها وترفض تسليمهم له، او التخلي عنهم بموتها..

أما الأب فهو ذلك الخائب المتشرد الفاشل في أي مهنة يمارسها، من الإسكافي إلى بائع المشبك إلى مربّي دودة القز التي قضي عليها بمنافسة الحرير الصناعي، فحلّ البؤس بالفلاحين ودمرت حياتهم.

(بقايا صور) التي يعرضها الكاتب من خلال عيني طفل يتذكر، تقوم في بنائها الفني على المسافة المديدة القائمة بين زمن السرد وزمن وقوع الأحداث، مما يتيح للمؤلف إعادة استرجاعها بوعي الكاتب المبدع المجرب الذي خبر الحياة تجربة وثقافة ومعاناة.

ما يلفت الانتباه في هذا العمل الريادي من كتابة (رواية السيرة الذاتية) العلاقة بين العام والخاص، خاص أسرة الكاتب، وعام الأسر الأخرى، بمعنى الوضع الاجتماعي العام والمميز لتلك الفترة التاريخية المعتمة بما فيها من فقر وحرمان عانت منه أسر الفلاحين بفعل التواطؤ التاريخي بين الاستعمار الاجنبي والإقطاع المحلي.

يطالعنا في مجمل أعمال الروائي حنا مينه موقف متقدم من قضية المرأة وحقوقها، فهو مناصر متحمس لها، ومتحيز لقضيتها، في مجمل إبداعه.

ثمة أبحاث كثيرة تناولت المراة في أعمال حنا مينه، وبمناسبة يوم المرأة العالمي سأتوقف عند صورة المرأة في رواية (بقايا صور) دون التعرض لغيرها، فما من عمل إبداعي يخلو من موقف صريح وواضح للكاتب من قضية المرأة.

في (بقايا صور) ثلاثة نماذج للمرأة: الأم، هذه المرأة المفعمة بالإنسانية، والقابلة للتعميم،والتي تجسد حالة البؤس والشقاء العامة، فهي علاوة على كونها حالة فردية لها دلالة اجتماعية تعكس وضع المرأة العربية المستسلمة لقدرها في مجتمع ذكوريٍّ يصادر حقوقها ويعتبرها مخلوقاً ضعيفاً تحت الوصاية، وهي في الواقع والممارسة – كما قيل عنها (إن المرأة التي تهز السرير بيمينها تستطيع أن تهزّ العالم بيسارها).

أم حنّا حافظت على أسرتها وتحمّلت غياب الأب المتشرد وإخفاقاته ونزواته، وهي على سلبيتها تمثل طاقة روحية لا تهون أمام المحن والمصاعب، ولا تفت من صلابتها الداخلية حالة البؤس والفقر والحرمان.

صورة أم حنا نموذج للأم العربية في حقبة مظلمة من تاريخ المنطقة

أما الصورة الأخرى (الأرملة) التي مات زوجها وتركها عرضة لقسوة  الحياة، مما وضعها في حالة مواجهة ظالمة مع مجتمعها، فرماها بأقسى التهم، وحوّلها إلى امرأة تبيح جسدها تحت وطأة الظلم والقهر الاجتماعيين.

الأرملة المشبعة بالإنسانية أيضاً تنقذ الأم من الموت وتحتضن الأطفال الأربعة، وتحلّ مكان أمهم عند غيابها، هذه الإنسانية المصادرة اجتماعياً يقدمها الكاتب نموذجاً يتفوق على هناته الاجتماعية محققاً أعلى قدر من الإنسانية والعطاء والتضحية من أجل أسرة مستضعفة.

أما الصورة الثالثة فهي زنوبة السودا، التي كانت تسكر بشكل دائم للهروب من بؤسها الاجتماعي ومن شقائها الجسدي، زنوبة التي ترفض مضاجعة السرجان عبدو، وتتحدى الدرك والإقطاعي، وتصرخ في وجه الظلم متمردة عليه، وتحتقر الرجال الذين لا يثورون على الاستغلال، ولا يثأرون لكراماتهم المهدورة، زنوبة هذه تصل في تمردها إلى إحراق مخزن حبوب الإقطاعي في لوحةٍ فنيّةٍ إنسانية أبداعية شكّلها الكاتب وجعلها خاتمة لروايته (بقايا صور). . .

صورة زنوبة من أنصع وأبهى صور المرأة في إبداع  حنا مينه، وتحولات شخصيتها تستوقف الدارسين، لإبداعه في رسم الشخصية الروائية، بما تحتوي من دلالات إنسانية وطاقات من التمرد والتحدي.

هنيئاً لك يا حنّا (الكبير) عيد ميلادك، وطوبى لزنوبة استشهادها في سبيل حقوق الفلاحين الفقراء وكرامتهم، ومن أجل استرداد إنسانيتها المستلبة من تحالف قذر بين الإقطاع المحلي والاستعمار الأجنبي.

نحني رؤوسنا أيها المبدع أمام مجدك الإنساني وعذاباتك طفلاً، ونضالاتك يافعاً، ومقاومتك كهلاً، في الحياة وفي الكتابة.

نتمنى لك الصحة والعمر المديد، أنت يا من عرفتَ وعبرتَ الفقرين، الأسود والأبيض، وصفّقت بيدٍ واحدة متجاوزاً شرطك العضوي والحصار الاجتماعي محققاً مكانتك الريادية في الرواية السورية، فأنت شيخها، وأحد أعمدة الرواية العربية والعالمية.

العدد 1105 - 01/5/2024