كيف تطور الصراع مع السلطة في «نادي السيارات»

من يتابع الإنتاج الأدبي للروائي المصري علاء الأسواني، منذ روايته الشهيرة (عمارة يعقوبيان) حتى الأخيرة (نادي السيارات) لا بد أن تلفته سمة أساسية في جوهرها، عدا أسلوبها المميز من حيث السلاسة والتشويق والشخصيات المفعمة بالحياة، والذي جعلها تلقى صدى واسعاً بين جمهور القراء. فإضافة الى تلك المزايا نجد أن قيمتها تكمن في القضية الجوهرية التي اشتغل عليها في معظم رواياته وهي قضية الصراع الأزلي ضد التعسف والاستبداد المتمثلين بقوة المال والسلطة، فمنذ الرواية الأولى (عمارة يعقوبيان) اهتم الكاتب بهذه المشكلة بشكل غير مباشر، ليصبح الطرح أكثر جرأة في رواية (شيكاغو) الصادرة عام  2007  ، فقد بدأت شخصية البطل الثوري بالتبلور فيها، ذلك البطل الذي قرر أن ينتهك كل خطوط الحذر، بحيث يقترب من الاصطدام بشخصية تمثل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بطريقة درامية مؤثرة، مع تضمين الرواية الإنذار بأن نهاية النظام باتت وشيكة، إلا أن أحداث الرواية التي تجري في مدينة أمريكية، تكشف لنا عن انكسار الحركة التي بدأها البطل بين أفراد الجالية المصرية هناك، بل تكون نهايته على أيدي الأمن الأمريكي المتواطئ صراحة مع النظام. أما في رواية (نادي السيارات)، فنلاحظ أن تطوراً ملحوظاً طرأ على نتيجة هذا الصراع، مع الإشارة الى ان الرواية صدرت عام 2013 أي بعد الثورة التي أطاحت بنظام مبارك، ورغم أن أحداثها تقع في فترة الأربعينيات أثناء تولي الملك فاروق حكم مصر، فإننا لا نجد اختلافاً يذكر في الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تؤدي الى تحريك الثورات، بل تؤكد المقولة التي وردت في رواية (شيكاغو) (إن الثورة تندلع دائماً في مصر على غير توقع، وإن ثمة تفاعلاً يحدث تحت السطح الهادئ للمصريين يجعلهم في اللحظة التي يبدون فيها وكأنهم أذعنوا للظلم ينفجرون بالثورة على نحو مفاجئ). تصور لنا الرواية حالة البلد في ذاك العصر من خلال أسرة مصرية فقيرة هاجرت من الصعيد الى القاهرة، لتكون أنموذجاً لطبقة كاملة تشكلت في المدينة من تجمع فئات متنوعة قصدت العاصمة لأسباب تتعلق بالسعي الى الرزق في الدرجة الأولى، فتصور تفاعل أفرادها مع البيئة الجديدة التي لا تحترم الظروف الـتي أدت بعائلة عزيزة إلى الفاقة بسبب كرمها المتوارث عن الآباء، ولا تفرق بين اللص والشريف الذي اضطر للعمل في (نادي السيارات) المكان الذي كان مرتعاً لنجوم الطبقة الراقية في مصر، أو هو (المكان المليء بالأوغاد الذي يرتدي فيه اللصوص أفخم الملابس ويتعطرون ثم يؤدون أدوارهم في مسرحية سخيفة) بحسب وصف (أوديت) الفتاة اليهودية في الرواية. فهناك نجد أن السلطة القمعية تتوزع بين مدير النادي (الإنكليزي) (جيمس رايت) الذي يكن احتقاراً علنياً لأبناء البلد، وبين (الكوو)  رئيس خدم قصر الملك فاروق الذي هو قمة الهرم السلطوي الفاسد. ويبدأ تفجر الصراع بعد موت العامل (عبد العزيز) إثر تعرضه للضرب هناك بناء على أوامر (الكوو)، حيث يدأ الشاب الثوري (عبدون) التنديد بالوضع القائم، مطالباً بالامتناع عن ضرب العمال. وربما يكمن جوهر الرواية في حرص الكاتب على الغوص في شخصية الإنسان المقهور الذي تعرض للظلم على مدى قرون طويلة، فهو يبدو كالكائن الذي عاش طويلاً في كهف مظلم فأصبح النور مؤذياً لعينيه، لذا نرى أن مطالبة الشاب الجريء بأبسط الحقوق الإنسانية للعمال لم تلق صدى إيجابياً فيمن حوله، كما تصور لنا الأمر بعض الروايات التي تعالج هذه المسائل بشكل خيالي، بل نجد أن هؤلاء العمال أنفسهم قد تملكهم خوف غريزي من كلمات الشاب (خوف كذلك الذي ينتابنا عندما نتطلع من مكان شاهق فترعبنا فكرة السقوط… فكروا أن عليهم أن يتبرؤوا علناً من كلام عبدون، بل راحوا يتمتمون فيما بينهم: (سيدنا الكوو ولي نعمتنا ولولاه كان زماننا في الصعيد قاعدين وراء الجاموسة). ليس هذا فحسب، وإنما يكشف لنا بردود فعلهم المختلفة عن نفسية المقموع تماماً، إذ ينبري أحدهم للقول: (أنتم عاوزين الحق؟ الضرب لازم لنا و لو الكوو منع الضرب النادي يبوظ… نحن للأسف صنف نمرود).  مع ذلك، فإن البذرة التي زرعها عبدون لم تمت، بل وجدت بعض المؤيدين الشجعان حوله خصوصاً أن الظلم صار صارخاً ومهدداً بقطع أرزاقهم، فيبلغ الصراع ذروته حين يتحول الفعل الثوري الفردي الى منظم، فتتمكن المجموعة من التقاط صور للملك وهو يعربد ويقامر في النادي، ثم توزعها على عموم الناس في الشوارع، فيما تتصاعد مشكلة العمال حتى تصل الى إعلان إضراب عن العمل، الأمر الذي يشكل حدثاً غير مسبوق في تاريخ النادي، وما يتبعه من رد عنيف من الطرف الآخر، إذ يجري اعتقال المضربين وإذلالهم، وهي النقطة التي توقفت عندها الروايات السابقة للكاتب دون تجاوز، وكأنها تقرر المصير المتوقع في هذه الحالات واقعياً… ولكن الواقع تغير فعلياً، فكان على الرواية أن تعكس هذا التغيير، فتخطو خطوة الى الأمام في هذا الصراع، لترسم نهاية  الرواية مصرع (الكوو) ، وهي نهاية لا يمكن النظر إليها على أنها غير معقولة، إلا إذا اعتبرنا أن ما حصل في الواقع المصري القريب غير معقول…

من المهم ربما أن ننظر الى البنية المتكاملة للرواية،لنفهم من خلال أحداثها وشخصياتها المتشعبة، تجليات الفساد العام في ظل فساد الحاكم، كحالة التناقض بين مصالح الأفراد وقواعد الدين مثلاً، كما في شخصية (يوسف طربوش) وهو الرجل المتدين الذي يكون ثروته من خلال عمله في صالة القمار، فيبحث عن فتوى تتيح له الاحتفاظ بهذه الثروة دون أن يؤنبه ضميره… أو في حالة محمود وفوزي الشابين اللذين يلجأان لاستغلال العجائز من النساء للحصول على المال.

ومن المهم أن نشير الى نقطة اهتم الكاتب بإبرازها في رواياته السابقة وفي هذه الرواية بوضوح أكثر، وهي تقديم الإشارة  إلى التنوع الديني في المجتمع المصري من جهة، وحضور القوميات الأخرى كالإنكليزية واليونانية من جهة أخرى، وهو أمر يعبر عن الوجه الحقيقي لمصر عبر التاريخ.

العدد 1105 - 01/5/2024