قرارات الحكومة وتوجهاتها… وسطوة السوق وآلياته

حين تتبع الحكومات نهجاً اقتصادياً يستند إلى خطة تنموية مركزية، وتعتمد على أدواتها الحكومية في تنفيذ هذه الخطة، فإن كل قرار تتخذه في الشأن الاقتصادي ينعكس مباشرة في الأسواق، ويؤثر سلباً أو إيجاباً في الأوضاع المعيشية للفئات الاجتماعية المختلفة. كذلك فإن الحكومات الليبرالية التي تنتهج اقتصاد السوق الحر، تلجأ في كثير من الأحيان إلى اتخاذ قرارات حكومية تجد انعكاساً لها في الأسواق المالية والسلعية، بل في مستوى الادخار والإقراض ونسب السيولة في المصارف، وسعر العملة الوطنية نسبة إلى العملات العالمية الرئيسة.

أما حكوماتنا التي تعاقبت منذ بداية الأزمة المركبة التي عصفت ببلادنا، وأدت مفاعيلها الاقتصادية إلى حالة ركود لم يشهده اقتصادنا الوطني منذ الاستقلال، فقد كان لقراراتها وإجراءاتها في معالجة الوضع الاقتصادي الذي تفاعل اجتماعياً مآلات يصح أن تدخل في باب العجائب والغرائب. لا بسبب صحة أو خطأ تلك القرارات والإجراءات، بل بسبب الزواريب التي دخلتها، والتي أفرغت مضمونها من أي تأثير إيجابي على الوضع الاقتصادي – الاجتماعي في الوقت الذي تابعت فيه قوى السوق سيطرتها.. وتحكُّمها بالوضع المعيشي لملايين السوريين المستنجدين بهيبة الحكومة وأدواتها الاقتصادية والرقابية، بل حتى بأدواتها القمعية.

صحيح أن الحصار الذي فرضته قوى التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة على سورية وشعبها لعب دوراً رئيساً في حالة الركود، ولكن الصحيح أيضاً أن هيكلة اقتصادنا الوطني وفق اقتصاد السوق الحر في العقد الماضي، ساهم في زيادة أضرار الحصار الدولي من جهة، وكوّن /لوبيات/ ونخباً قادرة، مدعومة داخلياً وخارجياً، تستطيع تجاهل.. بل مقاومة كل محاولة حكومية للحد من سيطرتها.. وسلطانها في المواقع المؤثرة في الاقتصاد السوري برمته، كالأسواق.. واستيراد السلع.. وتجارة العملة.. وربما أنواع أخرى من التجارة المدرجة في القوائم السوداء.

إن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في العقد الماضي لم تعبر حسب اعتقادنا عن رؤية اقتصادية بحتة، بل كانت كما برهنت الأحداث اللاحقة فجوة عملت الإمبريالية العالمية على النفاذ عبرها إلى تحقيق أغراض سياسية، وهذا ما يمكن تلمسه من مراجعة وصايا صندوق النقد والمصرف الدوليين ونصائحهما، وخاصة ما تعلق منها بانسحاب الحكومة من العملية الإنتاجية والتسويقية، وتقليص تأثير أدواتها على الأسواق، وإلغاء الدعم الحكومي لأسعار المواد الأساسية لمعيشة المواطن، وتشبيك الاقتصاد السوري بحزمة من الشراكات مع الاتحاد الأوربي ومنظمة التجارة العالمية قبل تمكين قطاعات الإنتاج العامة والخاصة في البلاد، في محاولة لتقليص دور الدولة في الشأن الاقتصادي، وفقدان سيطرتها بعد ذلك على القرار السياسي. إن خلق مناخ اقتصادي واجتماعي يغضب الجماهير الشعبية في الدول النامية المعادية للاستعمار والإمبريالية، كان هدفاً سعت إليه الولايات المتحدة منذ عقود بهدف تقويض الأنظمة السياسية في هذه الدول، والاستعاضة عنها بأنظمة موالية.

الأزمة السورية التي استغلتها الإمبريالية الأمريكية لتصفية حساباتها مع سورية، التي وقفت منذ عقود في مواجهة مخططات الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، لم تقتصر أضرارها على نزيف الدم السوري وسرقة المصانع والمنشآت الاقتصادية وحرقها وتخريبها بل أدت إلى فقدان عشرات ألوف العمال لوظائفهم، وارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات، وعجزت الطبقة العاملة والفئات الفقيرة عن توفير مستلزماتها المعيشية. كما أدت، مثلما حدث في جميع الحروب والأزمات الكبرى، إلى ظهور لاعبين قدماء.. جدد.. في هذه الأزمة، يستغلون الأوضاع الاستثنائية الناشئة. بل يساهمون بهذا الشكل أو ذاك في عرقلة كل حل سلمي ينهي مآسي المواطنين، ويمتصون الدماء التي لم تنزف بعد عن طريق رفع أسعار المواد الأساسية لمعيشة الفئات الشعبية.. ويحتكرون السلع، والدواء، ويلقون بملياراتهم في السوق السوداء لجني المكاسب من المضاربة على سعر الليرة السورية. وينفذ بعضهم مخطَّطاً أعد في قصور مشايخ النفط لمنع كل تحسن يطرأ على قيمتها أمام القطع الأجنبي بفعل بعض الإجراءات الاقتصادية الحكومية.

لذلك كتبنا في مقالات سابقة، بعد عجز الإمبريالية الأمريكية عن أخذ سورية من الخارج، أنه لا يجوز السماح لها بأخذها من الداخل، من بوابة ركود الاقتصاد، واستثمار غضب الجماهير الشعبية، وفقدان ثقة السوريين بقدرة حكومتهم على تأمين احتياجاتهم، ودعمهم في هذه الظروف الصعبة.

وطالبنا الحكومة بإلغاء القاعدة التشريعية التي تحول دون تدخل الدولة وأدواتها الإنتاجية والتسويقية والرقابية في الأسواق، والدخول بقوة وفاعلية في جميع مراحل العملية الإنتاجية. فالاعتماد في هذا الظرف الاستثنائي على آليات السوق رهان محفوف بالمخاطر، لأن دافع الربح، واستغلال الظروف لجني المزيد من المكاسب سيؤدي إلى رفع الأسعار، والاحتكار، والتهريب، والأسواق السوداء، في ظرف لا يسمح بهزات اجتماعية، بل يتطلب الوقوف إلى جانب الجماهير الشعبية في صمودها ضد العدوان الخارجي والداخلي الذي تتعرض له سورية، وتأمين مستلزمات هذا الصمود.

بعد كل اجتماع للحكومة.. تطالعنا الصحف بتوجيهات رئاسة الوزراء للوزارات المختصة حول تأمين السلع الضرورية للاستهلاك بالأسعار المناسبة، وتطمينات واضحة بشأن توفر الاحتياطات الاستراتيجية من الطحين، والمشتقات النفطية، وتطمينات أخرى حول سعر الليرة السورية مقابل القطع الأجنبي، وضرورة تشديد الرقابة على الأسواق لكبح ارتفاع الأسعار، وملاحقة المخالفين والمحتكرين قضائياً، وتشجيع المستثمرين والصناعيين، والتشاور مع الغرف الاقتصادية المختصة أثناء وضع القرارات و..و…

لكن ماذا يقول الواقع؟

الجماهير الشعبية تئن رغم جميع هذه التوجيهات والقرارات التي تذهب إلى أماكن أخرى غير الأسواق، تستهدف ربما أناساً آخرين، لا المخالفين والمحتكرين وسماسرة الأسواق السوداء، وتقف بعض القرارات أمام عقبة التشريعات التي سُنَّت في العقد الماضي، فتصبح في مواجهة مع القانون.

أما الأسعار فترتفع بإشارات من أصابع البعض وتنخفض ربما عبر مكالمة هاتفية من البعض الآخر، ترتفع رسوم التعليم المفتوح رغم شهادة الحكومة بأن الجماهير الشعبية تحتاج إلى دعم الحكومة، ترفع بعض مصانع القطاع العام أسعار منتجاتها رغم التراجع الكبير الذي طرأ على الدخل الحقيقي لأصحاب الأجور من العمال والمتقاعدين، وانخفاض عوائد صغار الكسبة والحرفيين. نقرع جرس إعادة الإعمار.. في الوقت الذي نصنع فيه الخطط لمساعدة الصناعيين على نقل معاملهم إلى أماكن آمنة! نستورد بعض المشتقات النفطية لتغطية الاستهلاك، بينما يجوب المواطن كازيات المدن والضواحي بحثاً عن بعض ليترات من المازوت. يتذمر المواطن من ارتفاع أسعار المازوت والبنزين، فترد الحكومة برفع جديد لأسعارهما، لدعم خزينة الدولة، ولكن من جيوب من..؟!

نفهم تماماً الوضع الحرج والصعب الذي تمر به بلادنا.. وندرك أن حل معضلة الاقتصاد السوري، وأثره على الأوضاع الاجتماعية لملايين السوريين في ظل الحصار الظالم، مرتبط بالحل السياسي للأزمة السورية، وعبر حوار وطني شامل. لكن في زمن الأزمات الكبرى تلجأ الحكومات إلى اعتماد سياسات اقتصادية استثنائية طارئة، دون الأخذ بالحسبان آليات السوق، وعرضه، وطلبه، واحتكاره وأيديه الظاهرة والخفية، فلماذا ما زلنا في ظل أزمتنا التي أفقرت الملايين نرفع القبعة لأسياد السوق، وآلياته، وسماسرته؟!

العدد 1105 - 01/5/2024