بعد قرار مجلس الأمن حول الأسلحة الكيماوية آمال الشعب السوري تتوجه نحو جنيف 2 لتفكيك الأزمة

انتصرت الدبلوماسية على البوارج والصواريخ مبدئياً، وتقدمت الحكمة على الديماغوجيا المطعمة برائحة البارود، واستطاعت الدبلوماسية الروسية والسورية تجنيب سورية والمنطقة، وربما العالم، مخاطر (الضربات العسكرية المحدودة) المتحولة في كثير من الأحيان إلى حروب إقليمية يؤججها أصحاب المشاريع التقسيمية والطائفية، ومروجو الفكر التكفيري (القاعدي) المدعومون أمريكياً وسعودياً. وفتحت أمام سورية والشرق الأوسط مرحلة ما بعد الكيماوي، وهي تفكيك الأزمة بالطرق السلمية عبر مؤتمر جنيف 2 الذي يُعد بجميع المقاييس مدخلاً لوقف نزيف الدم السوري، والحفاظ على سورية الدولة والمؤسسات والنسيج الاجتماعي المتعايش.. المتآلف.

القرار الأممي الخاص بإنهاء ملف الكيماوي الذي توافق عليه الخمسة الكبار، بعد مبادرة روسية ناجحة وموافقة الحكومة السورية، لم يتطرق كما روّج وطالب البعض، إلى عقوبات وتدخلات تحت الفصل السابع، بل أشار في نهاية بنوده إلى إمكان بحث تطبيق الفصل المذكور، إذا لجأ أحد في سورية إلى نقل السلاح الكيماوي واستخدامه.. وهذه إشارة واضحة إلى أن المقصود هنا ليس الجيش السوري فقط، بل أي مجموعة مسلحة.

وذهبت بنود القرار المذكور إلى خطة لتفكيك منظومة السلاح الكيماوي. لكن القرار تضمن أيضاً ما يؤكد العمل على الحد من انتشار السلاح الكيماوي والبيولوجي، وطلب من الدول الإبلاغ عن أي نشاط لجهات تحاول امتلاك هذا السلاح، في إشارة إلى المجموعات الإرهابية التي تخطط لحريق كبير تقيم على أنقاضه دولتها الإقصائية في العراق وسورية. كما طلب القرار من جميع أعضاء الأمم المتحدة عدم تقديم الدعم لجهات غير تابعة للدول، والتي تحاول استحداث أسلحة الدمار الشامل، وبضمنها الأسلحة الكيميائية.

قرار مجلس الأمن تطرق بعد ذلك إلى جنيف،2 وطالب بأن يشارك فيه جميع الأطراف التي تمثل الشعب السوري تمثيلاً كاملاً.وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة عن تنظيم المؤتمر العتيد في منتصف شهر تشرين الثاني.. وقال المبعوث الأممي المشترك الأخضر الإبراهيمي، إن على جميع أطراف المعارضة أن تدرك ألا حل عسكرياً في سورية.

سورية كانت قد أعلنت مشاركتها في جنيف 2 دون شروط، لكنها ليست الطرف الوحيد في هذه الندوة، بل يعتمد نجاح المساعي الدولية لإنهاء أزمة السوريين على مشاركة أطراف أخرى راغبة في وضع نهاية سلمية لهذه الأزمة، أطراف لا تستجدي العدوان على سورية، كما يعتمد على وقف كل أشكال الدعم للمجموعات الإرهابية التكفيرية التي استبقت قرار مجلس الأمن، بإعلان رفضها لكل حل سلمي، وكل جهد دولي، وكل مشاركة ل(الائتلاف) في هذا المؤتمر، بل أعلنت عدم اعترافها أصلاً بوجوده، وشكلت (جيش الإسلام) من 43 كتيبة لإقامة الدولة الإسلامية.. وهذا الموقف العدائي من الجهود السلمية لا يقتصر على هؤلاء، بل على جميع من يضع شروطاً استباقية، ويحاول رفع سقف مطالبه تعويضاً عن توازن كان مطلوباً على الأرض، لكنه لم يتحقق إلا في مخيلة من أراده.

هل من عوامل تساعد على انتصار إرادة أنصار الحل السلمي؟ لا شك أن التوجه الإيراني نحو حل عقد الملف النووي، والسلوك السياسي للقيادة الإيرانية باتجاه إزالة مخاوف الغرب من امتلاك إيران للطاقة النووية، الذي أثمر تقارباً إيرانياً- أممياً، سيقدم مساعدة هامة في خلق الأجواء الملائمة لحل المسألة السورية سلمياً، كذلك فإن التخوف من انتشار محتمل لممارسات المجموعات الإرهابية التي رفضت الحل السياسي إقليمياً ودولياً، دفع بالعديد من الدول الأوربية والعربية إلى تصحيح مواقفها باتجاه المساعي السلمية، بعد أن تأكدوا من المشروع الظلامي الذي يعمل عليه هؤلاء، والذي يتناقض تماماً مع الخيارات الديمقراطية للشعب السوري. لكن سلوكاً آخر يبرز أيضاً، يضع العراقيل أمام الجهود الرامية إلى تفكيك الأزمة السورية، يتمثل في سلوك الأمريكيين والسعوديين الذين يصرون على مواصلة الدعم العسكري والمالي لجميع الفصائل المسلحة التي تعمل على التصعيد العسكري، وهذا ما ظهر في كلمة وزير خارجية السعودية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومقررات اجتماع (أصدقاء) سورية الذين قلّ عددهم، لكنهم أكدوا المضي في هذا الدعم المتعدد الأشكال. وأيضاً في سلوك بعض المنتفعين من استمرار نزيف الدم السوري في الخارج والداخل، هؤلاء الذين يصابون بالدوار تجاه أي جهد سلمي ينهي محنة السوريين ويحافظ على دولتهم، ويؤكد مواقفهم الوطنية المعادية للإمبريالية والصهيونية.

لقد قلنا مراراً على صفحات (النور)، ونكرر اليوم، أن الحل السلمي والحوار الوطني، وتوافق جميع مكونات الشعب السوري السياسية والاجتماعية والدينية هو الطريق الآمن للخروج من النفق الأسود، وإنهاء الأزمة السورية لمصلحة جماهير الشعب السوري، وحقها في اختيار نظامها السياسي الديمقراطي وكيفية إعادة بناء بلادها، وطريق تطورها الاقتصادي والاجتماعي، الذي يحقق التنمية الشاملة المتوازنة، ويعيد توزيع دخلها الوطني وفق مبدأ العدالة الاجتماعية، بعد سنوات من تهميش مطالب الفئات الفقيرة والمتوسطة.

هناك مبررات واضحة للتفاؤل بوقف محنة سورية وشعبها، وهناك عقبات تقف في الطريق إلى هذا الهدف، لكننا نثق دائماً بإرادة الشعب السوري، بعماله وفلاحيه ومثقفيه ومنتجيه الوطنيين وقواه السياسية الوطنية التي أثبتت في الماضي، وستثبت اليوم أن خيارها هو العامل الحاسم.

العدد 1105 - 01/5/2024