مؤشرات جدية حول عقد جنيف 2

يمثل انعقاد دورة الجمعية العمومية السنوية للأمم المتحدة محطة هامة، لا لإلقاء خطابات زعماء وممثلي دول العالم فحسب، بل لعقد اللقاءات والقمم الثنائية وشبه الجماعية، ونقاش الإشكاليات التي يعانيها عالمنا، ومحاولة معالجتها أو البحث الأولي في كيفية وآليات حلها. وخلافاً للدورات السابقة، فقد شغلت الأزمة السورية، بسبب تطوراتها الميدانية والإقليمية والدولية، إحدى أهم النقاط التي بحثت في لقاءات زعماء ووزراء خارجية الدول المشاركة. وتصدرت مسألة عقد مؤتمر جنيف 2 الخاص بالأزمة السورية غيرها من المواضيع، وبخاصة أسس عقده وطبيعة المشاركة فيه، استناداً إلى وثيقة جنيف 1 في حزيران عام 2012 التي أعاد تأكيدها (التفاهم) الروسي- الأمريكي في أيار الماضي.

وإذ شكلت وثيقة جنيف 1 التي تنصلت منها وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، والتي قبلتها سورية، أساساً للحوار والحل السياسي، ورفضتها (المعارضات) آنذاك، فإنها استبعدت الخيار العسكري ومصطلحات التدخل الخارجي، أو عملية عسكرية محدودة.. إلخ.. فإن المتغيرات والتطورات التي شهدتها الأزمة السورية منذ التوقيع على جنيف حتى تاريخه، عجلت بالعودة مرة أخرى وبخاصة الأمريكية منها إلى هذه الوثيقة.

ومما لا شك فيه أن فشل مخطط التدخل الخارجي أو تمرير قرارات إدانة دولية ضد سورية، بسبب الصمود الوطني السوري بمكوناته، والمواقف المبدئية الروسية – الصينية (استخدامها الفيتو المزدوج ثلاث مرات) وما تمثله دولياً (مجموعة بريكس الدولية، منظمة شانغهاي للتعاون الدولية، منظمة أمريكا الجنوبية، الغالبية الساحقة من دول حركة عدم الانحياز.. إلخ). كذلك اتساع عدد الدول المؤيدة للحل السياسي للأزمة السورية، مقابل التناقض الكبير والمتزايد في عدد الدول المقتنعة أو المضطرة للإقرار بفشل التغيير الإرادوي الخارجي، أو تكرار سيناريوهات (الربيع العربي) المأزومة، أو السيناريو الليبي ومأزقه الكارثي.

وفي الوقت الذي واصلت فيه سورية سياستها الإيجابية في التعاطي مع المبادرات العربية والإقليمية العديدة، وقبولها وثيقة جنيف، ثم التفاهم الروسي – الأمريكي، وصولاً إلى الموافقة على المشاركة في مؤتمر جنيف 2 دون شروط مسبقة، فضلاً عن موافقتها على المبادرة الروسية بشأن أسلحتها الكيميائية، وعلى قرار مجلس الأمن الدولي ذي الصلة رقم ،2118 فإن الكرة انتقلت إلى الملعب الآخر، ممثلاً ب(المعارضات) على اختلافها وتبايناتها والمجموعات المسلحة والتكفيرية.

إذ واصلت أطراف (المعارضات) الخارجية توجهها برفض مبادرات الحوار والحل السياسي من البعثة إلى مؤتمر جنيف ،2 وما بينهما، وتعاطت مع القرار 2118 بوصفه قراراً مجزوءاً لا يشكل حلاً للأزمة السورية أو مدخلاً  لها. وفي الوقت الذي (أقرت) فيه الدول (الغربية) أو اضطرت إلى الإعلان (نظرياً) عن موافقتها على مؤتمر جنيف ،2 وعلى الحل السياسي، وبضمنها صقور الاتحاد الأوربي (فرنسا، بريطانيا)، وأكدتها كلمات وفودها في دورة الجمعية العمومية الحالية للأمم المتحدة، فإن الحرج والارتباك قد ساد أجواء العديد من الدول (العربانية) التي اتخذت موقفاً سلبياً من الأزمة السورية، كذلك الدول الإقليمية الأخرى بوصفها أدوات ووكلاء يفترض أن تنضبط أدوارها وسياساتها مع التوجهات الدولية المقررة عملياً في الأزمة السورية وكيفية حلها. وإن أبدت العديد من هذه الدول امتعاضها من هذه التطورات الإيجابية الدولية، فإن أبرزها تجلى في امتناع وزير الخارجية السعودي عن إلقاء كلمة بلاده في دورة الجمعية العمومية، ثم في الاعتذار السعودي عن شغل مقعد العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي عن المجموعة العربية لمدة عامين قادمين، رغم اتساع دور السعودية وتأثيرها على المعارضات والعديد من المجموعات المسلحة على حساب الدور القطري السابق (وهذا ما تجلى في الانتخابات الأخيرة لقيادة الائتلاف وهيئاته القيادية الأخرى).

أما (المعارضات) على اختلافها وتبايناتها، فتواجه ارتباكاً وحرجاً كبيرين، بسبب صمود الحالة السورية وتماسكها أكثر من عامين ونصف أولاً، والانقسام الحاصل في صفوفها تجاه الرغبة الدولية، والدعوة التي باتت أكثر جدية حول عقد مؤتمر جنيف 2 ثانياً. إذ أعلن جورج صبرا، رئيس المجلس الوطني وعماده (الإخوان المسلمون) رفضه المشاركة في جنيف 2 وفق المعطيات السياسية والميدانية الحالية، وهدد بالانسحاب من الائتلاف وتشكيل إطار معارضة خارجية جديد. كذلك فشل محاولات المعارضة الخارجية (ضبضبة) أوضاعها الداخلية والحفاظ على موقف موحد لها من مسألة جنيف 2 ثالثاً، فضلاً عن امتعاضها من (التفاهم) الروسي – الأمريكي، وبخاصة لقاء وزيري خارجية البلدين الأخير في نيويورك على هامش دورة الجمعية العمومية، وانعكاساتها على المواقف (الغربية). وتزداد الأمور تعقيداً لدى هذه (المعارضات) إثر إعلان (هيئة التنسيق الوطني)، أي المعارضة الداخلية، وأطرافاً معارضة أخرى، عزمها المشاركة في مؤتمر جنيف ،2 وزيارة وفد الهيئة إلى إيران مؤخراً ولقاءاته الإيجابية مع المسؤولين الإيرانيين. كذلك التعارض وصولاً إلى التناقض بين هذه (المعارضات) الخارجية المرتبطة وبين المجموعات المسلحة والتكفيرية، ورفض الغالبية الساحقة من هذه المجموعات ل(الائتلاف) وما يمثله من جهة، والانتقال من الاشتباكات المحدودة بين المجموعات التكفيرية- الجهادية، وما يسمى ب(الجيش الحر) إلى المعارك العنيفة فيما بينها من جهة ثانية، وخاصة في المناطق التي مازالت خارج سيطرة الدولة، ومحاولة كل طرف من هذه المجموعات بسط سيطرته المطلقة على هذه المناطق، واستبعاد المجموعات المسلحة الأخرى، وشمولية تفكير وأداء كل جهة من هذه المجموعات.

في الوقت الذي تتصدر الاهتمام فيه مسألة مصير الإرهابيين – المرتزقة العرب والأجانب في حال بدء العملية السياسية الخاصة بالأزمة، وتالياً عودتهم إلى بلادهم مزودين بتجربة قتالية، وتفكير وسياسة أكثر راديكالية وتطرف، وخشية هذه الدول وبخاصة (الغربية) والأمريكية من عودة هؤلاء إليها حالياً، في حال إغلاق الملف السوري، وهذا ما أعلنه الكثير من وزراء داخلية وخارجية هذه الدول، كذلك المختصون والباحثون في شؤون الحركات الإسلاموية الأصولية، وحذرت موسكو وبكين مراراً من تبعاته. أما ما يتعلق بمواقف المجموعات المسلحة التكفيرية والجهادية، وحرج (المعارضات) الخارجية المرتبطة، فإنها مشكلة مركبة متعلقة بجدية الموقف الأمريكي وضبط مواقف هذه (المعارضات)، وتالياً حجم الحرج الذي تواجهه.. وبالتالي الانتقال من سياسة التسليح والتدريب والمساعدة بكل أشكالها للمجموعات المسلحة، ثم (الإقرار) بالحوار والحل السياسي، وما يشكله من إشكالية على هذه (المعارضات) والمجموعات المسلحة أولاً، وفي قدرتها الفعلية على ضبط عمل هذه القوى ونشاطها ثانياً. وفي تنفيذ البنود الأخرى للقرار الدولي رقم 2118 وبضمنه منع كل الأطراف من استخدام السلاح الكيميائي، ومنع جميع الدول من تقديم أي شكل من أشكال الدعم الخارجي للجهات غير التابعة للدولة ثالثاً. إذاً.. عوامل عديدة تساعد في تكريس الحالة الإيجابية الراهنة، وتمهد لبدء العملية السياسية، بوصفها الحل الوحيد للخروج من الأزمة السورية، وإغلاق ملفها، وهذا ما أعلنته دمشق مراراً، بدءاً من صمود الحالة السورية إلى الإنجازات الهامة والمتتابعة للجيش السوري وما يمثله، ودقة مواقف سورية وصحتها في تعاملها مع الأزمة.. فالنقاش الجاري حالياً يدور حول توقيت عقد مؤتمر جنيف 2 وليس مبدأ الموافقة على عقده، وقد رجح الكثير من المسؤولين الأمريكيين والروس وغيرهم، وبضمنهم الأمين العام للأمم المتحدة والمبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي، على هامش أعمال الجمعية العمومية، أنه من المفترض عقد مؤتمر جنيف 2 في النصف الثاني من شهر تشرين الثاني، وأولياً في 23-24 منه، ويشير العديد من المراقبين أن جنيف تبلغت من الأمم المتحدة ضرورة التحضير لاستقبال المؤتمر. وبانتظار هذا الموعد المفترض، الذي سيسبقه لقاء روسي – أمريكي – أمم متحدة، مطلع تشرين الثاني القادم، فإن الكثير من التطورات تتواصل لصالح سورية ميدانياً وسياسياً على الصعيد المحلي – العملياتي والإقليمي والدولي.

العدد 1107 - 22/5/2024