مجرد تضامن..

في رؤية عامة إلى ما يجري على الساحة العالمية والعربية والمحلية تندمج القصص معاً لتؤلف مزيجاً غريباً من الأحكام والآراء تتداخل جميعها لتفقدها خصوصيتها وأهميتها، ولتظهر في الوقت نفسه مشاكل في طريقة التفكير والتحليل في مجتمعاتنا العربية (الممزوجة طبعاً مع كل المكونات القومية التي تعيش ضمنه) لتظهر المعاناة الفكرية في تقبل أي مفهوم جديد أو قضية عالمية..

وما الجريمة التي حدثت في مجلة (شارل إيبدو) الفرنسية، إلا صورة عامة تعكس المشكلة في طرح القضايا وطريقة التفكير بها لتدخل كلها في بوتقة واحدة وهدف واحد ورؤية من زاوية واحدة!

في مقتل الصحفيين الفرنسيين في مجلة ساخرة -وصفتها إحدى السيدات الفرنسيات اللواتي خرجن تنديداً بالجريمة أنها (تمثل تاريخنا ومسيرة حياتنا، فقد تربينا وعشنا مع هذه المجلة التي تمثل أفكارنا وآراءنا على الأقل بمفهوم الحرية بالتعبير عن الرأي)- توافق الكثير من السوريين على أنها جريمة، لكنهم اختلفوا على أهمية التنديد بها، فهل ينددون بها في ظل الحرب على سورية؟ وهل يستحق الفرنسيون أن يخرج سوريون لأجلهم متضامنين أينما كانوا ولو في فرنسا، في الوقت الذي يموت أطفال سوريون تحت خيام الصقيع؟ وهنا تشتعل الآراء ما بين مؤيد ومعارض ومندد ومحايد، لتظهر طريقة التفكير الغريبة بوضوح بين الشباب من الجنسين على شبكات التواصل الاجتماعي وفي محطات التلفزيون، وفي النقاشات العامة. هذه الطريقة في النقاش تؤكد مشكلة فكرية في العالم العربي تنتقل معهم أينما ذهبوا، وهي أنهم ينظرون من زاوية واحدة – وهنا أيضاً لا يمكن التعميم، فبكل تأكيد توجد عقليات عربية مختلفة مبدعة تقبل الأفكار الجديدة وتنظر من زوايا مختلفة- وهنا نتحدث بالعموم إذاً. وبالعودة إلى قضية مقتل رسامي الكاريكاتير، ما الذي خرجت به الآراء الشبابية : ترى إحدى الشابات وهي تجلس قبالة كمبيوترها المحمول أن من التفاهة الوقوف مع رسامي الكاريكاتير للتضامن معهم بينما هنالك أطفال يموتون من الثلج في مخيمات اللجوء ولا أحد يتضامن معهم، وبكل تأكيد هي لم تخرج للتضامن مع هؤلاء الأطفال ولا مع الرسامين، لكن فقط للنقد – فحسب وجهة نظرها- لا يجوز التضامن مع مقتل رسامين بينما لا أحد يتضامن مع مقتل الأطفال داخل وخارج سورية، والحديث بكل استرخاء ودون أي تضامن مع أحدهما على أرض الواقع!

 ويرى شاب سوري يعيش في بلد أوربي أن التضامن مع رسامي الكاريكاتير هو نوع من التماهي مع الغرب لا معنى له في ظل الهجوم على العرب والإسلام، بينما من الأجدر الوقوف مع احتياجات المهجّرين والنظر في السرقات التي تقوم بها المنظمات التي تعتاش على أموال الإغاثة المخصصة للسوريين، وهو متفرّغ للبحث عن أكثر الطرق نجاحاً للوصول إلى الميزات التي يمكن أن ينالها اللاجئ أو المهاجر!

 ويخرج مناضل من داخل سورية ليعتبر أن ما حدث هو قصاص للفرنسيين الذين سمحوا للإرهاب بالدخول إلى سورية، وما هذا إلا سياسة عالمية ومؤامرة كونية أدت إلى أن يتذوّق الفرنسيون من الكأس نفسها التي أذاقوها للآخرين بقبولهم بما يحدث في سورية، ويقلب القضية إلى قضية أخرى فمن الأجدر الحديث عن الشهداء السوريين بدلاً من الحديث عن مجرّد رسامين من دولة تمتلكها الرغبة بالاستعمار منذ الأزل!

 وهنالك من رأى أنه من الطبيعي أن يحدث كل ما حدث للفرنسيين من الجزائريين الذين استشهد منهم مليون شخص في مسيرة النضال ضد الاحتلال الفرنسي، بينما لم تكلف الحكومة الفرنسية نفسها بالاعتذار من ذلك الاحتلال الغاشم، فكيف يريدون أن يسامحهم الجزائريون على كل ما ارتكب بحقهم، وستبقى هذه الانتقامات إلى أن تعترف فرنسا بجرائمها!

هذا دون الدخول في الشق الآخر المشجّع على مقتل الرسامين لأنهم يستحقون ذلك كونهم تطاولوا على الرسول محمد، فهنالك العديد ممن رأى أن المجرمين أبطال ويستحقوا التكريم ..

آراء غريبة تخرج عن فكرة بسيطة جداً، وهي ما تحدثت عنه ببساطة تلك السيدة الفرنسية بأن الخروج هو للتضامن مع حرية التعبير التي تعني كل إنسان وتعني تجربة ديمقراطية لدول مرّت بحروب وكوارث اجتماعية واقتصادية أدت بهم للوصول إلى ثورة فكرية احترمت الكلمة والحرية، ولن تقبل بالاعتداء عليها، حتى أنهم لن يقبلوا بفكرة أن التطرف له علاقة بدين أو قومية، وهذا يحمي المواطن في مجتمع ديمقراطي حر..

في ظل كل هذا الصقيع الفكري العربي يهطل الثلج ليزيد الصقيع تجمداً ما بين الجسد والفكر، وتزداد مأساة السوريين وتخبطهم ما بين احتياجهم للمازوت والكهرباء وأولويات الحياة الطبيعية وما بين تضامنهم مع أنفسهم ومع الآخرين.

ربما يعيش السوريون مرحلة مخاض للولادة الجديدة التي تنتظر موعداً لم يحن بعد مرتبطاً بكل ما يحدث بالعالم كلّه، ربما هي الأعوام الأسوأ للسوري، لكن لا بدّ من الحلم بأعوام قادمة أفضل على أن ترتبط بالرغبة والتحدي والاعتراف بأماكن الضعف ومعالجتها بثورة فكرية تدعوهم على الأقل لمجرّد تضامن مع قضايا إنسانية وفكرية عالمية دون الدخول في متاهات التشكيك والانتقام والمؤامرات.

العدد 1107 - 22/5/2024