المدح والقدح وما بينهما!

عندما سُئل المبدع الروسي والأديب العالمي تولستوي عن أجدى السبل لتحفيز المبدعين والأدباء والمتفوقين، أجاب: التشجيع أولاً، وثانياً، وثالثاً، وأخيراً.. والشكر نوع من التشجيع، ويؤدي دوراً مأمولاً، لأنه دعم روحي، ومنشط نفسي، يرتضيه الإنسان، مهما علت به الرتب، بل ويدفعه لمزيد من العمل والجد والاجتهاد.

لكن الشكر لا يليق إلا بأهله، والشكر لأهل الفضل فقط، وللمبدعين حقاً وصدقاً. أما عندما يمنح الشكر اعتباطاً ومواربة، كما يوزع المتملقون ابتساماتهم المزيفة الصفراء، فإن الشكر يفقد قيمته ومعناه ومبناه ومحتواه وفحواه. أما مدعاة قولتي، فلأنني من متابعتي لواقع الحياة، ومنظومة الأداء في محافظة القنيطرة، لاحظت أن الشكر أصبح قيمة رخيصة جداً، لأنه يُقدّم أحياناً لكل من هبّ ودبّ وزحف وانبطح وتملق وتسلق وادعى وتباهى، دون مسوغات مقنعة، أو تبريرات مشفوعة بالوقائع! وغاب عن بصيرة الكثيرين أن للشكر قيمة كبرى، ويحمل دلالات ثمينة، وإيحاءات هامة، ومن العار أن نتجاوز القيم الحضارية في عملنا وتعاملنا، لنرضي هذا أو نتقرب من ذلك.

إن العامل الذي يلتزم بدوامه المحدد، ويقوم بتنفيذ المهام الموكلة إليه، ليس له منّة أو فضل، لأنه يؤدي ذلك كله مقابل أجر ومرتب، يحرص على قبضه قبل نهاية الشهر. وما يبديه من التزام ونشاط، هو جزء من عمله الذي سعى إليه حثيثاً، وفرح عندما حصل عليه!

إما إذا أبدع هذا العامل في عمله، وجاء بالجديد المبتكر الذي يعود بالنفع على العمل والوطن والمواطن، فعندئذ يستحق الشكر، ويليق به الثناء، ويجب أن يُشار إليه بالبنان، تقديراً واحتراماً. وعندما نشكر المدير لأنه يلتزم بدوامه فقط، فهذه محاباة ومداجاة، وهو نفاق، يقصد به تحقيق مكاسب ذاتية، ومنافع أخرى، يجب أن نترفع عنها، لأنها المدخل الأوسع للفساد الذي حاصرنا برائحته النتنة، وجرّ علينا الويلات التي يدفع ثمنها المواطن، والمواطن الذي لا حول له ولا قوة أيضاً.

وبالمقابل يسعى بعضهم، وأقصد الذين لا عهد لهم، ولا لون لهم، ولا موقف لهم، إلى تقزيم الجهود الواضحة الطيبة، والاستهانة بأعمال الآخرين، لأسباب شخصية بعيدة عن الموضوعية والحيادية والصدقية، والنقد الإيجابي البنّاء، وتجافي الحقيقة التي يجب أن نسعى إليها جميعاً. فكثير من المسؤولين المنتفعين والمواطنين المتطفلين، يُعرّضون بمن يشهد لهم الجميع بالعمل، والأخلاق الفاضلة، والنجاحات، أما السبب الخفي لذلك القدح والتعريض، فلأن ذلك المدير لم يعتد، ولا يستسيغ، أن يقدم قسيمة بنزين أو كميات من الأدوية، أو يفرز سيارة لأحد، فيواجه حرباً شعواء، لأنه لم يحقق الرغبات الدنيئة لضعاف النفوس وأدعياء الصحافة والكتبة، والمنتفعين من المسؤولين.

إن الرجل الذي يشيد به الجميع لنجاحه الإداري، وحُسن تعامله مع الناس، لم يعتد أن يسلك طريقاً غير قويمة، ويسعى صادقاً لتقديم أفضل الخدمات للمواطنين، لكنه يأبى أن يدفع أعطيات أو أتاوات أو رشا، لأنه يأنف هذه الأساليب، ويترفع عن الدنايا، ويقول: لم أرتكب مخالفة، ولن أقصر أبداً بعملي، ولن أنحني أو أتملق، ومن لم يعجبه فليفلق رأسه بحجارة القنيطرة البركانية الصلدة.. وإذا لم يشفع لي ضميري المهني وترتقي بي كفاءة عملي، وتسمو بي أفعالي التي يراها الجميع ويشهد بها المبصرون، فلا آسف على كرسي الإدارة، إذا أراد إذلالي.

العدد 1105 - 01/5/2024