الظلامية في زمن العولمة

لم يكن مفاجئاً هذا الظلام الذي يخيّم على المنطقة، فالضباب التكفيري تشكلت ذراته من عناصر التخلف والجمود الفكري، ومن بقايا مؤثرات العصور الوسطى، التي نخرت جسد أوربا وألقته جثَّة متفسّخة في أودية الجهل، وخرَّبت حياة الملايين وجعلتهم عرضة للاستبداد والاستغلال.

وخرجت أوربا من الظلمة الى النور، بفعل وتأثير التنويريين الذين حملوا الشموع كي ينيروا البيوت المظلمة، من أمثال (فرنسيس بيكون، وإسحاق نيوتن، وإيمانويل كانت.. وعشرات المفكرين والتنويريين)، وذلك بسبب الثورة الفرنسية، والتضحيات الكبيرة، وقيام الثورة الصناعية، وما تركته من تأثير على الحركة الفكرية التنويرية.

إن الموجة الثالثة أو (ثورة الاتصالات)، التي أنجبت (العولمة)، نقلت العالم إلى مرحلة من التطور الاقتصادي والمعرفي الكبيرين، في الوقت الذي لا يزال الظلاميون التكفيريون يعيشون في غيبوبة وانسداد الأفق وتحجيم معارفهم في اتجاه واحد، وهجومهم على كل ما هو تقدمي وتنويري. واستخدام أساليب (جهنمية) لغسل الأدمغة والتغلغل في أعماق البشر لتخريب كل ما هو إنساني وعلماني وحضاري، وزرع الأشواك واقتلاع الأزهار من حديقة الحياة.

وقد تعثَّر طريق التنوير وانحرفت البوصلة عن الشمال الحقيقي، بعد التقدم الذي سلكه والطريق الصحيحة التي سار عليها التنويريون العرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ونحن الآن بحاجة للعودة إليه، لأن الصراع أصبح واضحاً تماماً بين الفكر الظلامي والفكر التنويري، الذي يعتمد على العقل في تفسير الظواهر الطبيعية وعلى القوانين الناظمة لحياة حرة كريمة، وبناء المؤسسات على أسس ديمقراطية ونهج الطريق العلمي، ونبذ المعتقدات البالية والخرافات والعادات المتخلفة، وفصل الدين عن الدولة وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية المدنية.

والتنوير في النهاية هو انتشال الوعي من حالة الخضوع للخرافة والاستبداد والانتقال إلى الإصلاح والتقدم والبناء، وردم الأنفاق المظلمة وإنارتها. والتنوير هو مصطلح يعبر عن حركة فكرية وثقافية وفلسفية وعلمية وتاريخية، يعمل بقوة العقل والمنطق، وسيلة لتأسيس نظام المؤسسات. والكشف عن الحقيقة بمنهجية موضوعية، تستند إلى العلم والواقع والتاريخ. والتنوير دعوة وجهت في الغرب والشرق إلى المثقفين، لتشغيل العقل قبل العاطفة، والابتعاد عن فلسفة (التهريج) والثرثرة الفارغة من المضمون التقدمي والمحتوى العلمي.

وفي هذا الزمن الذي نعيشه، يتفشى السرطان في العقول التي استفاقت في زمن تطور البشرية الهائل على المخلفات البائدة، يتطلب هذا الواقع من المثقفين المنورين إجراء حوار نقدي موضوعي ديمقراطي حُرّ، (حوار يحترم الناقد فيه المنقود، كما يحترم الملقي فيه المتلقي)، خصوصاً في هذه المرحلة المعقدة التي تتصارع فيها الأقلام (مشرّقة ومغرّبة)، مدججة بالمغالطات والحجج الركيكة. مرحلة غدت أسيرة انتشار ثقافة القتل والعنف والذبح على أساس الطائفة والمذهب، واقتلاع القلوب من الصدور، وجعلها طعاماً للمجرمين الذين يعيشون تحت سقف الظلام وحبيسة للتعصب الديني والإثني والطائفي. ويعبر الشيخ عبدالله العلايلي عن ذلك بالقول: (إن من ينقد عليك هو كمن يؤلف معك. ومن ينقد عليك هو كمن يعمل معك).

ويبسّط الباحث المصري جلال عامر منهج الظلاميين والتكفيريين ويقول: صحيح أننا نعاني من الفكر الظلامي والفكر الحرامي، فهما قطبان أو طرفا مقص اقتسما الوطن معاً، وأموال علاج الغلابة، لكن من يبحث عن الدولة المدنية لن يجدها في جبال (تورا بورا). وأنت لا تبحث عن الحديد في الصاغة، بل في مخازن (عز).

يسلّط الفكر الظلامي الضوء على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، كما يروق لمعتقديها والمروجين لها، وحسب رؤاهم الأيديولوجية والدينية. ويصوبّون اهتماماتهم في مجرى واحد مثل: (الزواج والطلاق والإرث، وإصدار الأحكام في قضايا الحق العام). ويبتعدون عن البحث في الحياة الاقتصادية ولا يملكون البرنامج المرحلي والاستراتيجي، ولا يلتفون إلى الفلاحين الفقراء والعمال ودور الملاكين الكبار في السيطرة على الأرض الزراعية، ويروجون للرأسمال العالمي وفتح الأبواب للشركات الاحتكارية، للسيطرة على ثروات الشعوب العربية.. وفي نهاية الأمر هم مشاركون فاعلون في السلب والاستغلال والنهب وتدمير الحياة والأوطان.

العدد 1107 - 22/5/2024