سورية والمرأة وجهان لحقيقة واحدة

كلنا يخاطب سورية على أنها الأم والأخت والصديقة والحبيبة.. كلنا يعاملها كمجروحةٍ ومحرومةٍ ومرهقةٍ وحزينة.. كم مرّ عليها من الأسى في هذه الأزمات! وكم أثقلت عليها الحرب وكم تركت أوجاعاً! هي الصبيّة التي تركبرت (كلّ شبرٍ بـِندر)، وصارت عروساً، فتكلّلت بأثواب تطوّرٍ وعلمٍ وتاريخ، وما أن ثُكِلَت بآلامها وأحزانها، وهَرِمَت باكراً، فَقصِفَت، وتيَتّمَت، وشُرِّدَت، وضاع منها الأمل.. هي المرأة السورية…

تقول لنا السيدة حنان: أشكر الله أن أحوالنا المادية جيدة لأستطيع إخراج أبنائي من البلد، فأحدهم أردت إخراجه حتى لا يساق إلى الخدمة الإلزامية، التي صرنا نسميها (الذهاب إلى المجهول)، فلا أريد أن أفقد ولدي الذي أرى النور من عينيه؛ أما الآخر فأردتُ أن يُكمِلَ دراسته خارجاً، خاصةً أن جامعاتنا خلت من كادرها المتمكّن، وصار العلم ك (رفع العتب)، فربما أواسي نفسي بأن أقول سأعيدُ ابني إلى هذا البلد محمّلاً بالعلم والمعرفة ليعطيها يوماً لطلاب سورية القادمين.

وأما السيدة سارة، فقد بكَت كثيراً وغصّت بكلّ حروفها، وأوصلت من الوجع أجزاؤه، قالت: كان لي.. بيت سعيد يضم عائلة من ثلاثة شبان وصبيتين، فرحت ببناتي وزوّجتهما منذ خمسة أعوام، وسافر ابني البكر إلى لبنان للعمل، وفي السنوات الأخيرة فرحت بولديّ الأوسط والصغير… ثم شهقت بالبكاء… متابعةً أنها زفتهما شهيدين، وكل القرية رشتهما بالورد والأرز، وزغردت أمهات القرية، كثيراتٍ منهن زغردت لهن قبلاً بأولادهن الشهداء.. استشهد الأول، وبعد سنة ذهب الأصغر – حمودة – إلى الخدمة بد أن ودعني قائلاً (لا تحزني يا أمي فسورية بتستاهل)… وبعد خمسة أشهر استقبلته بألوان العلم، الأحمر دماؤه، الأخضر عيناه، الأبيض قلبه وكفنه، والأسود ثوبي….

والسيدة ماري التي لم ترَ ابنها منذ أربع سنوات، ولا تعلم ماذا حلّ به، وجارتها الصبية جوزفين التي فقدت حبيبها إلى الأبد لأنه استشهد، وأخاها الذي ابتعد لحدود الشمس لأنه اضطر للهجرة بعيداً جداً، حيث لا يستطيع العودة مجدداً إلا بعد انقضاء هذه الأيام العصيبة، تقول جوزفين: مصيبتي كبيرة جداً، فقلبي انكسر وروحي تشتتت، حبيبي وخطيبي، كنّا متفقين على الزّواج في الصّيف، لكن خبر استشهاده بقذيفةٍ جنونية أصابت مكان خدمته كان الأسرع، ومنذ ذاك صار السواد لوني.. وبعد أشهر اضطر أخي للسفر بعيداً بسبب خوف أهلي عليه من هذه الحرب المجنونة، ليكمل دراسته ويبقى سالماً، فهو خارج نطاق الخدمة العسكرية لأنه وحيد، لكنّ قذائف العدوّ لا ترحم..

وتقول أم محمد: ها أنا ذا مع عائلتي نبيت في صفٍّ دراسيّ بمدرسةٍ حكومية مع الكثير من العائلات السورية المهجّرة. كان لي بيتي وأرضي، وكنت مرتاحةً جداً وكان قلبي راضياً عمّا كتبه الله لنا من رزق، والآن سأشكر الله مراراً وتكراراً أنّ ما خسرناه ليس إلا خسائر ماديّة، أما زوجي وأولادي ها هم بخير، لكنّي أول مرّةٍ أقبع مع غرباءٍ تحت سقفٍ واحد، فلا خصوصية، ولا قدرة لي على توجيه أطفالي كما أريد، فهنا كلّ أمٍّ هي أم الكل، وهنا تكمن سلبية أن ما تعلمه لأطفالها سيصل ويتعلمه أطفالي لا محالة.. تأتينا إلى هنا مساعداتٌ كثيرة، حتى بات رجالنا يأكلون ويتسامرون ويلعبون، وكأنّه غير مطلوب منهم البحث عن عملٍ مجدداً، فالمأوى موجود والطعام موجود والملبس مؤمّن والأمان حولنا، فباتوا رجالاً كسالى ومضجرين ووجودهم مزعج، (لو إنو الدولة تأمنلهن شغل بدل هالإعانات والله يا بنتي أحسنلنا)…

تحدثت أيضاً مع الطالبة الجامعيّة ريما عن خططها للمستقبل فأجابتني: كنت أرغب أن أكمل دراستي دبلوم – ماجستير – دكتوراه… أي شيء أكمل فيه طموحي، لكنني توقفت حتى أترك هذه الفرصة لشابٍ يرغب في تأجيل خدمته العسكرية عن طريق إتمام الدراسة الجامعية، فيكمل هو حياته وأنا أكون قد ساعدته على ذلك..    صدمني عطاءُ هذه الفتاة، وأعجبني فيها تفكيرها في الشباب، كما أوجعني أنها تخلّت عن حلمها من أجل الآخرين.

سورية كم احتفلت بعيد المرأة! والآن المرأة السوريّة تُعايد سورية كلّ يوم لأنها المرأة الأعظم.

العدد 1107 - 22/5/2024