الشاعر المسرحي نجيب سرور سيرة ذاتية ومآس متلاحقة

في قصيدته الذّائعةِ الصّيت التي يصفُ فيها نجيب سرور يومَ مجيئِه إلى العالم يقولُ:

إنّي أتيْتُ إلى الوجودِ كما يجيءُ الأنبياءُ.

لا لسْتُ أنتحلُ النّبوَّةَ، غير أنّي مثلَهم في مزودٍ يوماً وُلِدْت.

في قريتي (أخطاب) حيثُ النّاسُ من هول الحياة، موتى على قيد الحياة.

لا الأرضُ نمَّتْ لي ولا صلَّتْ لِمقدميَ النّجوم.

ولا السّماءُ تفتَّحتْ عن طاقةِ القَدْرِ السّعيد.

ولا الملائكُ باركوا مهدي، ولا هبطَتْ تُصفِّقُ فوقَ رأْسِي حمامةٌ…

تلوَّنتْ حياةُ نجيب سرور بمختلِف ألوان المأساة والعذاب والقهر والاضطّهاد. ففي فترة السبعينيات عانى من ظروفٍ مأساويّةٍ متمثِّلةٍ بالاضطّهاد السّياسي والملاحقة والتّشرّد، وبسببِ قناعاتِه الفكريّة التّقدّميّة، فُصِلَ بقرارٍ سلطويٍّ جائر من أكاديميّة الفنون حيثُ كان يعملُ فيها أستاذاً للإخراج والتّمثيل، كما أعتُقِلَ وأُدخِلَ السّجن مرّاتٍ عديدة، حتى انتهى به المطافُ أخيراً إلى مستشفى الأمراضِ العقليّة لِفترةٍ من الزّمن.

يُحدِّثُنا النّاقدُ الماركسيُّ الكبير محمّد دكروب عن نجيب سرور شاعراً وناقداً وممثِّلاً ومخرجاً وإنساناً مناضِلاً صلباً يقولُ: (لقد كانت قصيدتُه الطّويلة) لزوم ما يلزم (أشبه بحواريّة دراميّةٍ بين الذّات والذّاتِ، يصوغُ فيها نجيب سرور هواجسه ويستحضِرُ مسيرتَه ومعاناتِه ومجادلاته مع الآخرين، ويستعينُ على حاضرِه المتأزِّمِ بحواراتٍ مع أبي العلاء ودانتي وبايرون وناظم حكمت ودون كيخوت الذي يستعيرُ منه شخصيَّتَه الاجتماعيّة).

كانت قريةُ (أخطاب) إحدى أهمِّ قِلاعِ الإقطاعِ في مصرَ آنذاك، ومنها استمدَّ سرور تصويرَه الفاجعَ والصّادقَ في كلّ ما كتبَ شعراً ومسرحاً. لقد عاشَ حياةَ الفقر والظّلم والاضطّهاد إلى حدِّ التّعوُّدِ، فكأنّ الحياةَ من حوله ليس فيها غير صُوَرِ الانسحاق الّذي تغلغلَ في نسيجِ حياتِه وكتاباتِه. فمن مآتي حياتِه ومجرياتها في (أخطاب) استخرجَ المادّة البشريّةَ والحياتيّةَ لأدبه، وفيها تلقّى معارفَه الأولى وتشرّبَ بالموروث الشّعبيِّ من عاداتٍ وحكاياتٍ وأمثالٍ وأساطير، وكذلك الملاحم الشّعبيّة الّتي تغلغلت في ذاكرته الإبداعيّة. فقد تحوّلَتْ (بهيّة، رمزُ الأدب الشّعبيّ) في أدبِهِ إلى رمزٍ لكلّ مصرَ في عذابها وخضوعِها وانتفاضاتِها. وتحوّلَ (ياسين) إلى رمزٍ لكلّ مناضلٍ يسعى لأجل خلاصِ مصر وتحرّرِها وتقدُّمِها.

بدأَ نجيب سرور نشاطَه في التّأليف المسرحيِّ مع مسرحيّة_(شجرة الزّيتون)، وهي مسرحيّةٌ شعريّة تولّى إخراجَها بنفسِه، إضافة إلى مؤلَّفاتِه المسرحيّة العديدة، قام بإخراج مسرحيَّتيْ (صلاح الدّين الأيّوبي) و (حبُّ الأمّ). واهتمّ كذلك بكتابة الدّراسات المسرحيّة. كما برزَ شاعراً متميِّزاً من شعراء الموجة الشّعريّة الجديدة، وكانت مجموعتُه الشّعريّةُ الأولى تحت عنوان (التّراجيديا الإنسانيّة). كما قدّم دراسةً نقديّةً ذائعةَ الصّيت، منها (رحلةٌ في ثلاثيّة نجيب محفوظ) التي اشتغلَ عليها بشكلٍ عاصفٍ ومتدفّق من النّاحيتيْن البحثيّة والعلميّة.

في فترة السّتّينيات من القرن الماضي، سيْطرَتْ على مصرَ والعالَم العربيّ موجةٌ من الحُمّى الإبداعيّةِ استمرَّتْ وبلغَتْ ذُروةَ احتدامِها وازدهارِها في السّبعينيات. وكان من الأساطين الّذين صنعوا هذا الازدهار: نعمان عاشور – ألفريد فرج – يوسف إدريس – رشاد رشدي – عبد الرّحمن الشّرقاوي – صلاح عبد الصّبور – محمود دياب ونجيب سرور الّذي غاص بعمقٍ في قلب الدّوّامة وترك بصماتٍ جليّةً في مجالات المسرح والنّقد والإخراجِ والشّعر الدّراميّ. هذا محمّد دكروب ثانيّة يقول: (إنّ نجيب سرور كان واحداً من أهمِّ فرسانِ المسرح المصريِّ والشّعرِ في فترة الازدهارِ والغلَيانِ الإبداعيِّ).  فلقد بلغَتْ أعمالُه المسرحيّة ستّةَ عشرَ عملاً مُتميِّزاً منها مسرحيات: ياسين وبهيّة – ميرامار – ملك الشّحاتين – البنات الثّلاث – الذّباب الأزرق – أفكارٌ جنونيّةٌ في دفتر هملت… أمّا مجموعاته الشعريّةُ المنشورة فكثيرةٌ جدّاً منها: التّراجيديا الإنسانيّة – لزوم ما يلزم – رباعيّات نجيب سرور – بروتوكولات حكماء ريش… هذا بالإضافة إلى أعمالٍ شعريّة لم تُنشر بعد: الأُمّيات – الطّوفان الثّاني – مارس آخر زمن – الوطن المنفي – رسائل إلى صلاح عبد الصّبور…

لقد ملأَ نجيب سرور السّاحةَ الإبداعيّةَ المصريّةَ قصائدَ جريئةً وهادفةً ومُؤَثِّرةً، لا يتَّسِع المجالُ هنا لنشرِها.

قالوا قديماً: لا تخفْ إنْ قلتَ، واصمتْ لا تقلْ إن خِفتِ،

لكنّي أقول: الخوفُ قوّادٌ فحاذِرْ أن تخاف،

قلْ ما تُريدُ، لِمَنْ تُريدُ، كما تُريدُ، متى تُريد،

ولْيكنْ مِنْ بعدِها الطّوفانُ.. قُلْها في الوجوهِ بلا وجَل…

في رسالةٍ كتبَها نجيب سرور إلى يوسف إدريس مُعبِّراً فيها عن مِحنتِه وعذابِه، كتبَ يقول: (بعدَ عاميْن من التّدريس في المعهد العالي للفنون المسرحيّة، فوجِئْتُ باستبعادي وأصبحتُ بلا عملٍ ولا مرتّبٍ ثابتٍ ولا اطمِئْنان إلى اليوم والغدِ وما بعدَ الغدِ، ونتيجةً لِعدم الاستقرارِ المادّيّ والنّفسيِّ تمّ الطّلاقُ بيني وبين زوجتي، فأصبحتُ بلا بيتٍ أيضاً، كما أصبحْتُ جوّابَ شوارع يُحالِفُني الجوعُ والعُريُ والتّشرُّدُ والبطالةُ والضّياعُ، وأنا الآنَ طريحُ الفراشِ منذ أكثرَ من سنةٍ ونصفٍ، كسيحٌ ونصفُ ضريرٍ وأنوءُ بأعباءِ الأمراضِ الكثيرةِ.. صديقي يوسف، إنّها صرخةُ استغاثةٍ، إنّها صرخةُ رجاء).

في 24 تشرين الأوّل من عام 1978 رحلَ نجيب سرور عن عالَم العذاب. رحلَ الشّاعرُ الجريء والمسرحيُّ الكبيرُ والنّاقدُ الحصيفُ وتركَ لنا أعمالاً نُشِرَتْ وأُخرى لم تُنشَرْ.. كما تركَ لنا سيرةَ حياةٍ حافلة بالعطاء والنّضال والفكر التّقدُّميِّ والمأساة والقهر والعذاب…

نجيب سرور

 وُلِدَ  في أوائل حزيران من عام 1932 في قريةِ (أخطاب) في مصرَ. كان ما يزالُ تلميذاً صغيراً عندما  تفتّحَ وعيُهُ الإبداعيّ وإحساسُه الطّبقيّ وراحَ ينظمُ شعراً نضاليّاً من الوجهتين الاجتماعيّة والسّياسيّة، ثمّ برزتْ ميولُه المسرحيّة في مطلِع شبابه، فترك دراسةَ الحقوق والتحقَ بالمعهد العالي للفنون المسرحيّة لِيحصلَ على الدّبلوم في عام 1956. ثمّ انضمَّ إلى فرقةِ المسرح الشّعبيّ الّتي كان يُديرها القاصّ والرّوائي يحيى حقّي، فأبدى في الفرقةِ نشاطاً ملموساً تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً..

في أواخر عام 1958 سافر إلى الإتّحاد السّوفياتي حيثُ درسَ الإخراجَ المسرحيّ، كما انكبّ على دراسة الماركسيّة من مناهلِها الأصيلة، فتعمّقَ إيمانُه وفهمُه لأدبيّات الاشتراكيّة العلميّة من خلال مفاهيم مدرسة الواقعيّة الإشتراكيّة، وأصبح يرى في المفهوم الدّيالكتيكي الطّريقَ الأصحَّ في تفسير الكون وجدليّة الحياة. وخلالَ إقامته في موسكو تزوّج من طالبة الآداب ساشا كورسكوفا، وله منها ولدان هما شهدي وفريد. بعد ذلك انتقل إلى المجر، ثمّ عاد إلى مصر في عام ،1964 حيثُ كانت القاهرة تنعمُ بفترة ازدهار أدبيّ ساهمَ فيه نجيب سرور بنتاجه المسرحيِّ والشّعريِّ والنّقديِّ، فكان آنذاكَ من أهم فرسان المسرح المصريِّ المتميِّزين.

العدد 1104 - 24/4/2024