من الصحافة العربية العدد 650

حين يحكم الفلول ـ بالديمقراطية

استنتج البعض، من نتائج الانتخابات التونسية، أن الجماهير العربية في أكثر من بلد صار خيارها محصوراً بين جناحين يمينيّين: اليمين الذي يمثّله النظام الحاكم، واليمين الإسلامي. البعض الآخر جزم بأن الفالق السياسي الذي تدور حوله المواجهة الانتخابية والمجتمعية في منطقتنا هو بين (الإسلاميين) و)العلمانيين)، وأن ما يجري في تونس ومصر وغيرها اليوم ما هو إلا تمظهر لهذا الصراع. هذه استنتاجات من يأخذ الانتخابات ومغزاها إلى ما هو أبعد من دورها الإجرائي، ويتخيّلها مرآةً للمجتمع، كأنّما هي منصّة يقف عليها (الشعب) ويطرح ما في باله، وأن القضايا التي تدور حولها المنافسة الانتخابية تعكس هواجس الناس وهمومهم (في الانتخابات الأمريكية عام 2004 كانت إحدى أهم القضايا (الإشكالية) التي قررت مصير الانتخابات تتعلق بما إذا كان جون كيري قد كذب في توصيف خدمته العسكرية في فييتنام).

هزيمة القوى اليسارية والمستقلة، والتي كانت فعليا من حرّك الثورة في تونس وقادها – مرتين – لا يجب أن يكون مدعاة للإحباط أو الاستغراب، بل هي مجرّد دليل جديد على طبيعة العملية الانتخابية، وأن الأصوات لا تذهب إلى من يرفع شعاراً جميلاً، بل إلى من يملك قوةً فعلية على الأرض: مصالح تجارية، مؤسسات، نخب، إعلام وقدرة على الحشد والدعاية – أي بمعنى آخر، المال والسلطة الاجتماعية (وفي حالة بلادنا، يُضاف شرط الدعم الخارجي).

أوّل مبادئ الديمقراطية الانتخابية هي أنها نظامٌ لتبادل الحكم سلمياً بين النخب، وليست جسراً لخلق نخبٍ جديدة أو لإقصاء وإضعاف تلك الموجودة والمهيمنة. هكذا، فازت لائحة رجل أعمال كسليم الرياحي، لا يملك أي حيثية سياسية ولكنّه أثرى أثرياء تونس، بعددٍ من المقاعد يفوق تلك التي حازتها (قوى الثورة) مجتمعة – فالطريق الانتخابي مفتوحٌ دوماً لأمثال رفيق الحريري، في كل مكان، ولا يهم هنا أن يكون تراثك نظيفاً وساطعاً أو أن تكون وزيراً سابقاً لدى بن علي.

الأمثولة الأساس هي أنّ القطبين اللذين يتنازعان البرلمان في تونس (علمانيون) و(إسلاميون) لا يختلفان على أيّ من المسائل الأساسية التي تتعلق بإدارة البلاد، كالنظام الاقتصادي، وتوزيع الثروة، ودور الدولة، ولا حتى في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية والموقف من النظام الدولي. هنا (المعارضة) و)الحكم) هي جزءٌ من نظام واحد، ويجب أن نتوقّع أن تظهر فيه الأزمات نفسها التي أدّت إلى الإطاحة ببن علي أصلاً – إلا إذا افترضنا أن الثورة كانت مجرّد (هبة) مؤقتة، أو أن التونسيين قد ناضلوا وضحّوا فقط حتى يتمكنوا من إسقاط ورقة في صندوق.

عامر محسن

(الأخبار)، 31/10/2014

 

الفكر الإصلاحي العربي في مواجهة التنمية العصيّة

تتمتع المنطقة العربية بموارد بشرية ومالية ضخمة، لكن إنجازاتها التنموية المحققة ضئيلة ومتواضعة. فما الذي أعاق ويعيق التنمية العربية؟ ولماذا كل ذلك التباطؤ في إنجازاتها مقارنة بالموارد المتاحة؟

هذا السؤال الإشكالي ومحاولة الرد عليه يشكل الإطار الفكري والمنهجي للبحث الجماعي: (التنمية الإنسانية العربية في القرن الحادي والعشرين)، مركز دراسات الوحدة العربية ،2014 حيث عمد فريق من الباحثين لإصدار عدد سادس من تقارير التنمية الإنسانية العربية بعد خمسة تقارير ذات محتوى فكري ومعلوماتي رائد، تناول كل قطاع في المنطقة العربية، من أوجه العجز والنقص في الحرية والمعرفة ووضع المرأة، إلى تقديم نظرة شاملة عن امن الإنسان.

اعتمد الباحثون مفهوم التنمية البشرية كما أكده تقرير التنمية البشرية لعام 2010 وفحواه أن (الإنسان هو الثروة الحقيقية لأي أمة)، من ثم يكون الأساس في التنمية توسيع الخيارات المتزايدة والمستمرة لهذا الإنسان. وقد عرّفها الكتاب بتمكين الفرد والمجتمع، ليس في مجال الصحة والتعليم فحسب، كما أفاضت التقارير السابقة، بل في السلطة واتخاذ القرار، خصوصاً أن الانتفاضات اظهرت بعداً آخر للفجوة المتزايدة بين الإمكانات والسياسات ـ وهي الفجوة بين شيخوخة السلطة وشبابية المجتمع ـ ليس عمرياً فقط، وإنما إيضاً إدراكياً ومعرفياً.

تناول الكتاب إشكالية الفقر في العالم العربي، فرأى انه على الرغم من المكاسب التي حققتها الدول العربية في مجالات الصحة والتعليم، إلا أن اللا مساواة الطبقية الحادة ما زالت سمة مميزة للمجتمعات العربية. فالطبقة الوسطى تتلاشى وأعداد الفقراء آخذة في الارتفاع، خصوصاً في الارياف، حتى بات هناك 220 مليون فقير في القطار متوسطة ومنخفضة الدخل، فضلاً عن 4,14 في المئة عاطلين عن العمل. وفي رأي المؤلفين ان مؤشرات الفقر الحقيقية للمنطقة العربية قد تكون كارثية إذا ما استبعدت الدول النفطية الغنية التي لا تتوفر بيانات وافية عن حقيقة الفقر داخلها. وثمة وجه شاب للفقر في العالم العربي، حيث أعلى نسب البطالة عالمياً بين الشباب الذين يمثلون 60 في المئة من العاطلين عن العمل، كما أن هناك نحو 40 في المئة من خريجي الثانويات والجامعات لا يجدون فرص عمل، ما يؤدي إلى هجرة كثيفة. إضافة إلى ذلك لا تزال المنطقة العربية تعاني من ارتفاع معدل الأمية الذي يقارب الـ30 في المئة عموماً، والـ40 في المئة في الدول الأقل نمواً.

وإذا كانت تقارير التنمية الإنسانية السابقة قد سلطت الضوء على العوامل التي تعيق حصول النساء على قدر متساوٍ من الفرص في مجالات الصحة والتعليم والعمل والتمثيل في الحياة العامة، الأمر الذي يحول دون اسهامهن الفاعل في التنمية، وان لم يكن ثمة دليل عملي واضح على أن النساء هن الأكثر فقراً، بمفهوم فقر الدخل، إلا أنهن يعانين مستويات أعلى من الفقر البشري الذي يعد من أبعاد مقياس التنمية البشرية الثلاثة: الصحة والمعرفة ومستوى المعيشة، ولا تزال مساهمة النساء في القوى العاملة دون الـ33 في المئة، وهي النسبة الأدنى في العالم. وأشار التقرير كذلك إلى أن نسبة البنات اللواتي يتوقع إلا يلتحقن بالمدرسة على الإطلاق تبلغ 80 في المئة مقابل 36 في المئة للصبيان، كما لا تتجاوز مدة بقاء البنات في مدارس أقاصي الريف في كل من اليمن ومصر 4 سنوات.

إلى هذا الخلل التنموي يلاحظ الكتاب انتشار سكن العشوائيات التي تزيد على 50 في المئة من مجموع سكان المدن في الصومال واليمن والعراق ولبنان، وتصل في بعض البلدان إلى 80 في المئة، في حين لا يزال النمو السكاني في العالم العربي 1,2 في المئة العام ،2010 من أعلى معدلات النمو السكاني على المستوى العالمي ـ 2,1 في المئة في العالم و4,1 في المئة في البلدان النامية. ويتوقع أن يصل عدد السكان العرب إلى 598 مليون نسمة العام ،2050 يقطن منهم 432 مليوناً في المدن.

مقابل ذلك، يتفاقم الإنفاق العسكري، إذ أشار الكتاب إلى أن الدول العربية تحتفظ بنسبة عالية من الناتج الإجمالي للإنفاق العسكري، فهي تنفق على شراء السلاح ما يفوق إنفاقها على التعليم والصحة على عكس البرازيل وتركيا وجنوب إفريقيا التي تنفق على التعليم ما يفوق إنفاقها العسكري بما بين مرتين وخمس مرات.

وينبه الكتاب إلى الفساد المستشري في العالم العربي، فقد حلت خمسة بلدان ضمن الربع الأسوأ في ترتيب الدول المشاركة في مؤشر الفساد لعام 2011 وعددها 183 دولة، بينما تتوزع نصف البلدان العربية في منتصف هذا المؤشر، الأمر الذي يعيق تمكين المواطن العربي من تحقيق التنمية المنشودة.

ويتوقف الكتاب أمام ظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات وضعف أو انعدام الرقابة على العمليات الانتخابية، ما يحد من فعالية المؤسسة التشريعية وقدرتها على سن القوانين.

ما يطرحه المؤلفون إزاء كل ذلك الخلل وكل تلك التحديات المربكة هو (التمكين)، أي جعل السلطة ممثلاً لأطياف المجتمع وطوائفه كلها، لتكتسب الحد الأقصى الممكن من الشرعية مقارنة باستخدام الغلو في القسر والسيطرة، وذلك من خلال زيادة حرية الاختيار عند الأفراد والجماعات.

والتمكين يجب أن يبدأ من القمة بالحد من التوجه السلطوي المفرط، وإعادة توزيع السلطة وإصلاح المجتمع، وتوطيد فكرة المجال العام في إطار تعاقد اجتماعي جديد هو نتاج مشاركة أطياف المجتمع كافة، خصوصاً شريحة الشباب. ويتطلب التمكين نظاماً تشريعياً كفؤاً وأحزاباً قوية، وإلا يكون حد فوق القانون. وما الأسلوب الأمثل الذي يراه الكتاب لتحقيق ذلك سوى ضمان المشاركة بين الدولة والمجتمع حيث تتعلم كل القوى، بما فيها السلطة السياسية، التكيف مع مطالب الآخرين. على هذا النحو يبدأ التغيير من القمة ليسري في المجتمع، فيعطيه القدوة ويشكل بوصلته.

نرى ختاماً أن الكتاب قد أضاء بصورة شبه شاملة على الاختلالات العصية في التنمية العربية طارحاً تصورات إصلاحية ديموقراطية، يمكن أن تسهم في رأي المؤلفين في تغيير الواقع العربي نحو الأفضل. إلا أننا نسجل بعض الملاحظات النقدية الأساسية التي تحد من الجدوى المتوخاة من الكتاب:

أ ـ تميز الكتاب بشكل عام بالتسرع والاستعجال والارتباك المنهجي وافتقاد الرصانة الأكاديمية، ما جعله دون تقارير التنمية الإنسانية السابقة دقة وإحاطة بالواقع العربي.

ب ـ يشدد المؤلفون على أولوية القرار السياسي، وعلى مقولة إن التمكين يجب أن يبدأ من القمة بغية التنسيق والشراكة بين فئات المجتمع وطبقاته كلها في إدارة شؤون الدولة في ظل حكم القانون، وهي المقولة المستهلكة والمستعادة من الفكر النهضوي العربي، حيث تبنى الطهطاوي والأفغاني وعبده وسواهم فكرة الحاكم المستبد العادل. الأمر الذي يدل على دوران الفكر الإصلاحي العربي في الدوامة ذاتها منذ القرن التاسع عشر إلى الآن. فكيف يكون الحاكم مستبداً وعادلاً في الوقت نفسه؟ كيف يتنازل وحاشيته عن الاستئثار بكل مقدرات الدولة ليشرك فيها كل أطياف المجتمع؟

أن تصور ذلك إفراط في الطوبى ودلالة على تناقض كبير، انساق إليه المؤلفون بعد أن شددوا مراراً على عزوف الجماهير عن المشاركة في عمليات الاقتراع وعلى ارتهان القضاء والإعلام للسلطات المستبدة ومصادرتها للحراك السياسي والاجتماعي على المستويات كلها، كما نبهوا في الوقت نفسه إلى النسب المرتفعة للفقر والأمية. فكيف يمكن أن يتصدى هؤلاء في هذه الحال للانخراط جنباً إلى جنب مع الحكام في صنع القرار؟

ج ـ الحقيقة التي أغفلها المؤلفون هي أن التغيير لا بد له من مقدمات اقتصادية اجتماعية سياسية معرفية، وهو يمر عبر صراع تاريخي محفوف بالعرق والدم، ولم يكن في يوم من الأيام منّة من الحاكم الذي يسعى إلى البقاء وأسرته من بعده في سدة الحكم إلى ما شاء الله.

مجموعة باحثين، (التنمية الإنسانية العربية في القرن الحادي والعشرين، أولوية التمكين)، مركز دراسات الوحدة العربية، ،2014 576 صفحة.

كرم الحلو

(السفير)،  08/11/2014

العدد 1105 - 01/5/2024