احتضار الإنسانية بفعل القسوة

من بين جميع المآسي التي تسربل البشرية بالآلام يطفو الجنون بوصفه أكثرها قسوة، لأنه يسلب الإنسان كرامته، عقله وروحه، ويجرده من فضيلة الندم التي تسهل انزلاق الموت في ثنايا الجنبات الجزعة. مما يجعل الجنون احتجازاً عقلياً مكافئاً للموت بوصفه الغياب التام. وبالتالي كلاهما غير قابل للشفاء مما يستدعي ضرورة التعامل بمرونة وحكمة مع تلك الغيابات وأشكالها. ولاسيما أن الحالة العقلية السوية نادراً ما تتمظهر بصورة الاكتمال الخالي من شوائب الجنون، والتي اصطلح على تسميتها بالعقد النفسية.

يظهر الفيلم الأمريكي Stonehearst Asylum  حالات كثيرة للجنون يتعايش أصحابها مع الأسوياء ذوي الحيوات الحاضنة لتشوهات نفسية وأمراض روحية مزرية. مما يعيدنا إلى سؤال الوحش والإنسان، ومتى يتوارى القهر والظلم ليحجبا العقل خلف الغياب؟ وأين يترسخ صلف الغرور ولامبالاته بتكريس المعاناة الإنسانية، وهي معادلة تختزلها مواجهة بين طبيبين، اختار الأول لامبBen Kingsley) ) الرأفة والرحمة لجنوده المحتضرين فأنقذهم من المعاناة بطلقات من مسدسه، وحين أراد الانتحار نفذت ذخيرته فتوارى عقله خلف الذهول وجلد الذات. أما الثاني سالت فعالج زميله العسكري المجنون بإعدام شخصيته الإنسانية وسحقها بطرق علمية تجريبية بذريعة إعادة خلقه مجدداً وفقاً للسوية السليمة.  

تدور الأحداث في مصحة إنكليزية قديمة تدعى ستونهيرست في نهايات عام 1899 مخصصة لأبناء العائلات الغنية ممن فشلوا في التأقلم مع انحرافات أقاربهم ومتطلبات محيطهم الاجتماعي. مما يفسح المجال لإلقاء الضوء على أساليب العلاج النفسي السائدة في تلك الفترة، والتي لا تفترق عن الإذلال والتعذيب في شيء. وتتزامن مع وصول طبيب متدرب من إكسفورد يأتي بحثاً عن نزيلة شابة تدعى إليزا. كان قد شاهدها في إكسفورد أثناء خضوعها لتجربة أمام الطلاب، استعرض خلالها المحاضر كيفية شل حركة المجنون بنخزه في أماكن أعضائه الحساسة.  

ينظم لامب المرضى وينجح في الاستيلاء على المصح بعد تخدير الطاقم الطبي وعزله في الأقبية. فتتبدل طريقة العلاج كليا، ويتم الاحتفاء بالمرضى ضمن حالتهم الطبيعية، ليتسنى لهم مغادرة الجحيم الذي عاشوا فيه طوال أعوام وليقتربوا من حالتهم الإنسانية. ويسهل إلغاء المهدئات عودة الثقة المفقودة بالرحمة والأمل والسلام. فيرسل المرضى الأكثر هدوءاً إلى المطعم ليشاركوا في إعداد الطعام، بينما يتابع آخرون الانشغال بأوهامهم التي ركنت إليها عقولهم تخلصاً من احتمالات مضنية غير قابلة للتفسير أو الغفران. وتستعيد إليزا روحها بعزف الموسيقا، ويحرر آرثر من قفصه الذي سجن فيه، دعماً لنظرية سالت في تحويل المجنون إلى حيوان، ومن ثم إعدام انسانيته بالكهرباء لإعادة بنائه. ويكفي عندئذ استدعاء إنسانيته عبر النطق باسمه الذي سجله على جدران سجنه أثناء تحوله إلى وحش.

آمن لامب بإمكانية تأهيل الجميع بطريقة بسيطة تستعيد الكرامة الإنسانية المهدورة، لكنه استثنى الساديين الذين يمتهنون إذلال الآخرين. لذلك ترك النزلاء أحراراً في التجول والانخراط بالآخرين دعماً لفكرته في خلق مجتمع واع يشعر أفراده بالكرامة والرضا، واحتفظ بالطاقم الطبي في السجن ليتيح لهم الاقتراب من الجنون الحقيقي. وحين تمادى رئيسهم سالت في استفزازه وتحقيره، طبق عليه الصعق بالكهرباء متيحاً له تجربة أسلوبه العلاجي الفعال..

 عبر إبراز الانفعالات الدقيقة المقرونة بالحوارات الجميلة، نجح المخرجBrad Anderson  في عزل جرثومة القسوة التي تغيب العقل وراء أستار الجنون، وخاصة حين تكون صادرة عن المقربين كما في حالة آرثر الذي باعه أهله لسيرك متنقل، وإليزا التي تزوجت رجلاً ثرياً جداً ومنحطاً بنفس الوقت، أو من الأطباء الذين يفترض بهم تغليب العطف والرحمة على المغالاة في تحقير المرضى والانحدار بهم إلى السوية الحيوانية..

العدد 1105 - 01/5/2024