IDA جائزة أفضل فيلم أجنبي

كيف يستقبل الإنسان الذي عاش ردحاً من الزمن في ظل هوية دينية معينة، انتماءه بحكم المولد إلى أخرى. هل يتنكر لأصوله ويتابع ما ألفه واستكان في إساره؟ أم يتجرأ فينظر ويعاين ثم يختار القالب المناسب لتطوره الروحي.. أسئلة تواجهها بطلة الفيلم البولنديIda) ) بمنتهى العفوية والبساطة الغارقة في التأمل الروحي.   

يستخدم المخرج البولندي  باوليكوسكي لعبة الأبيض والأسود المتناغمة مع  حميمية ستينيات القرن الماضي، مما يتيح له حرية أكبر للمناورة الحركية وتسليط الأضواء على هوامش التفاصيل الصغيرة. فنغادر مع الراهبة اليافعة آيدا الدير الذي عاشت فيه طوال حياتها القصيرة بعد أن اجبرتها الراهبات على لقاء قريبتها الوحيدة في المدينة فوندا قبل خضوعها لنذر البتولة. ونتلمس في عينيها ومضات الفضول المندهش، وهي تستكشف العالم من حولها وتواجهه لأول مرة كمقدمة للتوغل في إرثها العائلي المحجوب. 

تتواجه العاهرة والقديسة بشكل غير متعمد، في إشارة خفية إلى تقابل عهدين متواصلين متداخلين حمل الأبعد صفة القديم والأحدث صفة الجديد. فالخالة اليهودية انخرطت أثناء الحرب العالمية الثانية في القتال ضد النازيين قاتلي أبناء جبلتها. ثم ترقت في الحزب ونالت منصب المدعي العام في محاكمات علنية ضخمة إبان خمسينيات القرن الماضي، مرسلة (أعداء الشعب) إلى الموت. لكن مكانتها تراجعت لاحقاً لتعكس التشرذم الداخلي بين إرثها الديني ومستقبلها السياسي، مما حولها إلى امرأة سيئة السمعة تدمن الكحول. وتتجاهل مراراً دعوات الراهبات لاستقبال ابنة أختها الوحيدة حتى تجدها أمام باب شقتها في إحدى صباحات الشتاء الباردة. فتبدأ رحلة التعرف بين المرأتين على إيقاع فتور ينطوي على رفض ضمني لصورة اليهودية الراهبة. ثم يوقظ مرأى الفتاة المنبوذة أمام الواجهة الزجاجية لمحطة القطار عاطفة الحنين عند الخالة الوحيدة فتعيدها إلى منزلها، لتستعيد برفقتها هويتها المفقودة. ثم تتوجهان نحو مسقط رأسيهما في قرية براسكا بحثاً عن مكان دفن والدي الفتاة. وهذه الرحلة تتيح لهما إمكانية إرساء علاقة أسرية مرتجلة تسمح للخالة أن تتصالح مع ذاتها، وفي الوقت نفسه تمنح الفتاة فرصة تعرف العالم المادي خارج أسوار الدير.

يلقي الفيلم الضوء على حياة الناس البسطاء الذين عانوا بصمت إبان الحرب بسبب معتقدهم الديني، وكيف خذلهم جيرانهم الطيبون من أجل الاستيلاء على ممتلكاتهم المتواضعة كما حصل مع والدي آيدا. فقتلوا بفأس ودفنوا في الغابة دون شواهد لتتناثر ذكراهم شأن كل العابرين المسحوقين الخارجين من طيات التاريخ وهوامشه الحزينة. والمفارقة الأليمة أن زوجة القاتل تطلب من الراهبة الشابة أن تبارك طفلتها الصغيرة، لكنها لا تسمح لها ولخالتها برؤية منزلهما القديم. فتكتفي آيدا بدخول الحظيرة حيث تتوقف أمام زخرفة زجاجية زينت بها والدتها النوافذ حين كانت صغيرة ليتسنى للأبقار أن تنعم بالسعادة. وبدلاً من النوم في منزل عائلتهما، تضطر الخالة للنوم في الحبس بسبب السكر بينما تنام آيدا على سرير نقال في ردهة كنيسة القرية. وهي المكان نفسه الذي أحضرها إليه القاتل بعد تنفيذ جريمته في أبويها وشقيقها، إذ لا أحد سيتعرف في الطفلة الرضيعة على انتمائها الديني.

تجسد اللقطات التي تصور القاتل وهو يحفر في الغابة لاستخراج عظام ضحاياه، فيما تجلس المرأتان وهما تراقبان بصمت، أقوى المشاهد في الفيلم. إذ تتجلى ذروة الإنسانية المنتهكة بالجشع المغطى بأستار العقائد الدينية. مشاهد متألقة تنتهي بكومة عظام ملفوفة بغطاء صوفي، تحملها آيدا بعطف إلى سيارة خالتها. ثم ترحلان صوب مقبرة العائلة المهجورة لتدفنا البقايا وسط الأشجار. وخاتمة كهذه تتناسب حتماً مع انتحار الخالة بعد بضعة أيام على أنغام الموسيقى، لتحكي نافذة مهجورة حزن النفوس المرتهنة لماضيها. ارتهان تتجاوزه آيدا بتنفيذ وصية خالتها بتجربة الاتصال الجسدي قبل إقدامها على تأدية نذرها لتكون التضحية واضحة المعالم لا مجرد تكهنات غامضة. فترتدي ثوب خالتها المكشوف وتعيش الأنوثة مع عازف شاب لتعود إلى مسوحها وديرها.

العدد 1105 - 01/5/2024