السلوك القيمي في ظل المتغيرات المتلاحقة

 

 

السلوك القيمي يرتكز على البناء الفكري والعقائدي للإنسان، ويعبر عن مجموعة المبادئ المتناسقة التي تكوّن شخصيته في مرحلة عمرية وزمنية معينة، فلكل مرحلة عمرية ولكل مجتمع ولكل فترة زمنية معينة نسق قيمي خاص بها.

والسوك القيمي حالة عقلية وجدانية يتبناها الإنسان، وتترجم إلى سلوك ظاهر تلقائي ومستمر، وأحياناً تختلط التصنيفات ما بين القيم والعادات والأعراف والتقاليد، ولكن تبقى القيم معايير وقوانين لها من الثبات أكثر من الأعراف والتقاليد والعادات.

وفقاً للمنظور النفسي التّحليلي، يُعبّر عن السّلوك القيمي ب الأنا الأعلى (الضمير)، وهو يتكون مما يتعلمه الطفل من والديه ومدرسته والمجتمع من معايير أخلاقية، فتكون الرؤية الحقيقية لمعنى الحياة من تكامل العلاقة بين منظومة القيم التي يحملها الفرد، وتمايز الأداء في الحياة اليومية، فهناك علاقة متصاعدة بين الإدراك العقلي والنسق القيمي والسلوك، أو الأداء العملي لتصرفات الأشخاص في حياتهم.

وعلى ضوء ذلك، فإن دور القيم في مواجهة الظلم الذي يتعرض له الشخص في حياته، يتأتى من خلال ارتقاء السلوك، وسمو الغايات، والوعي الوجداني والوطني بتقديرات المجتمع من خلال الممارسات الواقعية، كذلك الحال في إبراز دور القيم في مواجهة الفساد، من خلال احترام القانون الوضعي، ومن خلال التربية القيمية التي تحض على تحمل المسؤوليات المختلفة العامة والخاصة.

لكل أمة رصيدها من القيم الإنسانية الرفيعة، تستند إليها من أجل البقاء والرقي الإنساني، وبمقدار تمسكها بها يكون اضطراد نموها وتطورها. أما في حالة اضطراب المعايير القيمية في أي بلد، فسيلي ذلك حكماً اضطراب منظومة القيم لدى الفرد، مما يؤدي به إلى هزيمة نفسيّة، سببها الشّعور بهزلية المبادئ، وعجز القيم المجتمعية عن مواجهة متطلبات الحياة المتسارعة.

 وللقيم أهميتها من كونها ترجمة للأوامر والنّواهي التي يجب الالتزام بها، لتحمي المجتمع من الانحراف.. أما اضطراب القيم فيؤدي إلى سلوكيات شاذة، أصبحت اليوم تتكرر لدى الشّباب بخاصة، دون أن يعتريهم أي شعور بالنّدم أو الذّنب، بل يخلق لديهم شعور بديل بالانسجام وتطوير القناعات التي تحمل السلوكيات اللا سويّة الجديدة..

والجدير ذكره أن تبني مجموعة ما لقيمة ما، لا يعطي هذه القيمة الصّلاحية لمجرد أن لها أتباعاً  كثراً، فالأكثرية ليست معياراً للحكم على صحة المبدأ، إذ إن التّطور التّقني والانفجار المعرفي، أديا إلى إبعاد الفرد والمجتمع عن قيمة أعرافنا ومنظومة أخلاقياتنا أكثر فأكثر، ابتداءً من الانبهار بالتّطور التّقني والتّجاوب معه دون وجود رصيد قيمي وسلوكي يضبط الحياة، مروراً بالميل المتنامي لدى كثير من الأفراد نحو اللامبالاة بما يقترفه بعض الأفراد والجماعات في المجتمع من سلوكيات تتنافى وقيم هذا المجتمع، إضافة إلى ظهور بعض التّيارات والدّعوات التي تنادي صراحة، أو ضمنياً، بالخروج عن قيمنا المجتمعية بذريعة تكريسها للتخلف، وهنا يطرح التساؤل حول ثبات القيم وتحولها في العالم المعاصر اليوم ؟!..

فأتباع الاتجاه البراجماتي (أو النفعيون) يرون أن القيم الإنسانية نسبية، فليس هناك خير مطلق أو شر مطلق، فالخير أو الشّر راجع للممارسة والخبرة، ومن أهم أنصار هذا الرأي الفيلسوف (كونت) الذي ربط القيمة بالواقع والملاحظة بالتجربة، ونادى بارتباط القيم بالأشياء الحسيّة، وكذلك (وليام جيمس)

 أما عالم النفس التّربوي الشّهير (جون ديوي) فيرى أن الخبرة والممارسة ينبوع القيم.

ولما كانت رؤية (ديوي) مطبقة في غالبية مناهج العالم المتقدم، لذلك نرى اليوم أن العمل واحترام الوقت والشّعور بالمسؤولية، ونضج السّلوك من خلال التجربة والتّدريب، وأن القيم تتجه لتغدو قيماً عملية منبثقة من حاجات الناس المتبدلة، وظروف الحياة اللامتناهية في التنوع والتّداخل..

ه����������وع والتّداخل.. 

 

العدد 1105 - 01/5/2024