ثقافة التطوع سبيلنا لتجاوز الأنا

من منظور مقارب بين السلوك الفردي والسلوك المجتمعي، يمكن النظر لثقافة التطوع كفعل حضاري يسهم في الارتقاء نحو عيش السلوك المدني، والعمل التطوعي هو فعل محبة لأنه مطلب من متطلبات الحياة المعاصرة التي تستدعي دوماً من كل منا تطوير ذاته من خلال تطوير شعوره صقل أفكاره المنبثقة عن ذلك الشعور تجاه ذاته (الانتماء الإنساني)، انتماءاته المختلفة عبر حس المواطنة .

إن التطور السريع في العالم عقّد الحياة الاجتماعية في ظل تدهور الظروف المعيشية الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والتقنية المتسارعة، مما يجعل الحكومات تقف أحياناً عاجزة عن مجاراتها بمفردها، وهذا ما يستلزم تضافر الجهود كافة في المجتمع لمواجهة تلك الظروف والتطورات المتلاحقة.

وما تعيشه بلادنا اليوم في ظل تردي الأوضاع المعيشية لغالبية الناس بكل أبعادها، يصبح التقصير الحكومي في تلبية خدمات ضحايا العنف أمراً وارداً وطبيعياً، ما يجعل تلبيته والعمل به ضرورة إنسانية لمن يستطيع إلى ذلك سبيلاً، إذ إن سلوك التطوع هو انعكاس للتكافل الاجتماعي، وتأكيد اللمسة الحانية المجردة من المنافسة، بما يحقق متطلبات تنموية في المجتمع عمادها النمو القيمي، لما لهذا السلوك من دور هام وأساسي في عملية التغيير الاجتماعي، بما يحمله من الشعور بالولاء والانتماء لقيم ثقافية وروحية تعكس ناموس المجتمع ووجدانه، و بما ينعكس على النفع العام والالتزام باحترام حقوق وكرامات الآخرين من خلال احترام القوانين التي تنظم علاقات المواطنين بعضهم ببعض، وعلاقاتهم بمؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

 إذا، سلوك التطوع يعكس مؤشرات لسلوك منتمٍ منبثق من وجدان الفرد المرتبط بغيره، هذا السلوك الذي يجعل المسؤولية بين الفرد والمجتمع تبادلية تضامنية ومتوازنة، تحفظ للجماعة مصلحتها وقوة تماسكها، وللفرد كرامته، وبدون هذه القيم تنحط الجماعة البشرية عن سلم الارتقاء والتطور إلى الانزلاق للعيش الوحشي البدائي،إذ أن ثقافة التطوع ليست مبنية على المعارف بقدر بنائها على حقوق الإنسان، التي بدورها تسهم في تربية الإنسان المؤمن بحقوقه المتجلية بتحقيق كرامته الإنسانية بعيداً عن القهر والظلم عليه والتعنيف الممارس عليه، لأنه بإقراره بحقوقه والسعي لها، لا يمكن عندها أن يقبل بممارسة ذلك على غيره.

 وهذه التربية المنطلقة من التوافق مع الذات، لابد أن يتبعها توافقات عديدة مع الوسط المحيط، أهمها التوافق الوجداني الذي ينعش حضور الإنسان ويثري حياته بالمشاعر النبيلة والأفكار البناءة، المؤدية إلى السعادة الحياتية ضمن المجتمع المرحب المحتوي لأبنائه بكل عجزهم وقوتهم، وبفعل الإرادة المجتمعية هذه تُحفظ الحقوق ويمنع الطغيان والاعتداء، لأن سلوك التطوع هو سلوك مبادر فيه إقبال على الآخر الضعيف لنحيي فيه القوة التي نريدها لأنفسنا، إذ بهذه الروح تحيا قيم المواطنة عند بني الإنسان، وتصبح الأهداف أوسع للجميع، إن الترويج للعمل التطوعي أمر مصيري لكل الشعوب التي تريد أن تعيش الاستقرار وتنتصر على المظالم، بمساندة الضحية المعنف الذي غلبته الحياة، ذلك أن المؤازرة الأهلية من أبناء مجتمعه أولاً، ثم من مجتمعات أخرى تنتصر للخير والعطاء، إذ بهكذا سلوكيات يستعيد عنفوانه وتنتصر لديه أفكار الخير على الظلم، وبهكذا  أفعال يصبح الجميع أقوى. وفي ختام قولي حول هذا الموضوع لا أجد أبلغ من قوله تعالى في كتابه العزيز (من تطوع خيراً فهو خير له).

العدد 1105 - 01/5/2024