طيورٌ مهاجرة

تهاجر هي لتطمئن وتعيش بسلامٍ ومناخٍ مناسبٍ فتجد الدفء والأمان والعيش الهانئ، وما هي إلا طيور؛ فكيف هو حالُ البشر، وبالأخصّ ما هو وضعُ السّوريين أُناس التهجير القسريّ بسبب الحرب والخوف والحرمان والسعي وراء الرزق وإكمال العلم.

الكثير من المحافظات الآن تعرّض سكانها للعنف بسبب  الظلم الواقع عليهم، فقرروا أن يحموا أنفسهم وأطفالهم ويهربوا بعيداً عن موطنهم ومسكنهم وطرقاتهم وأعمالهم، فكثرت الهجرة في بلادنا كثيراً، إلى أن باتت بعض المناطق خاليةً من أهلها، وباتت بيوت كثيرة خاويةً من أرواحها..

ذهبوا ليعملوا في الخارج أينما كان ومهما كانت الظروف أو العمل، فعملوا في المطاعم والعتالة والسياقة وفي أي شيءٍ مهما كان ليجدوا قوت يومهم، ويدبروا لقمة أولادهم الذين باتوا دون علمٍ ودون حياةٍ طبيعيةٍ من طفولةٍ وكرامةٍ وحقوق، وببلادٍ تعاملت مع اللاجئين السوريين على أنهم بشر من فئة عبد، لا على أنهم إخوةٌ عرب قد تعرضوا للضيم، أو بشرٌ لهم حقوق إنسانية، ونجد ذلك خصيصاً لدى من نقول إنهم (إخوتنا العرب)، ومنهم من كان يعيش أجمل أيامه لدينا، ووهبته بلادنا من حبها وعطائها اللامحدود وضيافتها التي غمرته… ذهب إليهم السوري ليجد عكس ذلك تماماً، فكثرت السكاكين في مذبحة السوريين، وبدل أن يقدّروهم ويعطوهم حقهم الطبيعي في العمل بالمهن المناسبة لهم، وإذا بهم يعاملون أصحاب الشهادات والمهن، مع قسوة الزمن، بغدرٍ وإهمال.

وفي ميلٍ آخر وجد الشباب أن مستقبلهم ليس في هذه البلاد. بلادٌ ملؤها سواد الدخان، ولون الدماء، وحقد النفوس. قرروا أن يكملوا دراساتهم خارجاً من طبٍّ وهندساتٍ وفنون وأكثر، وجدوا بعراقة جامعاتنا السّورية محدوديّةً في العطاء لأنه غير مستمرٍّ  مع سوق العمل، ولأنه محجوبٌ عن كلِّ تقدّم وتطوّر بسبب التخلّف العلمي والفكري ومنع كلِّ تحديثٍ للعلم لدينا. سافروا بعيداً ليجدوا مستقبلاً يخدم طموحهم ورؤاهم وأهدافهم التي ينبض بها قلبهم السوريّ المفكر والناضج الذي يليق به كل علوّ.

تمنوا أن يكونوا هنا، لكن دول العالم أردت أن يكونوا فيها ليستفيدوا منها ويستغلوها لمصلحتهم هم فقط، فتصير سورية خاويةً من المتعلمين والمثقفين والمطورين، فتعود لعصرٍ غابرٍ بعيدٍ عن المستقبل والمعرفة والرقيّ.

يستفيد العالم أجمع من السوريين بالعلم والعمل، فيهاجرون إليها ليطوروها ويعيدوا شبابها، فنجد بعض البلدان قد فتح أبواب الهجرة إليه لاختصاصات معينة ولفئات عمرية معينة لتنبض بلادهم بعنفوان شبابنا، وتستمر خدماتهم عن طريق سواعد أبنائنا.

يحقّ لكلّ فرد أن يرى مصلحته في المكان المناسب، وليس من الخطأ أبداً أن نستثمر العلوم أينما كانت ولو في الصين، وليس عيباً أن نعمل مهما كان وأينما كان لنجمع مالاً يساعدنا في العيش الكريم، لكن علينا بالمقابل أن نفكر في العودة القريبة لبناء هذه البلاد الحبيبة بالعلم والحضارة والمحبة والإنسانية، فهي تحتاجنا في الغد القريب، تحتاج أن نساندها ونقف معها ، ونعزّها كما أعزتنا بحضارتها وعلمها وتاريخها كل تلك العصور والأزمان… سنبنيكِ قريباً يا حبيبة الخمسة والعشرين مليون سوري عاشقٍ لترابك المليء بذهب الدماء التي بُذلت لأجل حريتك وكرامتك وضميرك الحي.

العدد 1105 - 01/5/2024