ماهية المواطنة ومفهومها

مع تنامي هاجس التغيير الديمقراطي، اتسع تداول مصطلح (المواطنة) بما يحمله من معاني المشاركة في الحياة الثقافية والاجتماعية السياسية والاقتصادية، إذ إن صفة (المواطن) لا تعني فقط الانتساب إلى لوطن، والارتباط به كتابع، وإنما هو بهذه الصفة عنصر فاعل في مختلف المجالات، له كيانه المستقل، وقناعاته الخاصة، ومن حقه أن يعبر بحرية عن آرائه واختياراته الشخصية، وأن يضطلع بدور إيجابي في الحياة العامة.

ولا يستقيم مفهوم البناء الديمقراطي لأي دولة، ولا يمكن له أن يتأسس ويستقيم طرحه من دون تجلي روح (المواطنة) في علاقات كل فرد (مواطن) بمواطنيه، والأهم بمؤسسات الدولة التي يعد الهدف الأساسي من وجودها هو خدمة (المواطنين) وتوفيرها لكل ما يحتاجون إليه في حياتهم الفردية والجماعية.

إن البداية الأهم لذلك هي ترسيخ وتنظيم القوانين الواضحة الحدود للحقوق والواجبات، والعمل على ترسيخها في حياة أفراد الوطن بدءا من الطفولة، وعبر المناهج المدرسية، وتكريسها من خلال تنمية الوعي حولها عبر حلقات متتابعة من الإعلام الرسمي بكل مفاصله المرئية والمسموعة والمقروءة بما يسهم في تحقيق أمنهم واطمئنانهم واستقرارهم في عيشهم اليومي، وبالتالي يجعل دافعيتهم أقوى نحو العمل بما هو مطلوب منهم .

وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى مفهوم الانتماء، الذي يرتبط الأفراد (المواطنون) عبره بالولاء الكامل للوطن الذي لا يعني لهم مجرد حيز جغرافي، أو علم يرفرف فوق البنايات الرسمية، وإنما يشمل في مفهومه الواسع والواقعي مجموعة من القيم والمبادئ والقضايا التي يراعيها القانون السّائد في أي بلد، لتعكس الإرادة العامة للمواطنين.

ولتحديد مصطلح المواطنة لابد من العودة إلى مدلول الكلمة وأصل هذه الكلمة لغة. دخلت مفردة مواطنة على قاموسنا اللغوي العربي في إطار ترجمة التراث الغربي الحديث، وهي تقابل كلمة Citizenship) ) في اللغة الإنجليزية، وكلمة Citoyenneté) ) في اللغة الفرنسية، وكلمةCiudadania)  ) في اللغة الإسبانية، ويأتي الاشتقاق من كلمة City) الإنجليزية، وCité) ) الفرنسية، وCuidad) ) الإسبانية، وتعني هذه الكلمات في اللغات المذكورة (المدينة)، أما أصل مصطلح المواطنة فهو يوناني، ويرجع لكلمةPoliteia) ) المشتقة من كلمة  Polis)) وهي المدينة.

وجاء في (لسان العرب) لابن منظور أن الوطن : هو المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان، ومحله، والجمع أوطان. وتترجم كلمة المواطنة في بعض المعاجم العربية، بأنها الاسم الذي يطلق على حقوق المواطن وواجباته، وكلمة المواطن تعني: الفرد الذي ينتمي إلى دولة معينة، ويقيم  فيها بشكل معتاد، ولو لم يولد بها كحالة اكتساب الجنسية، والدستور والقوانين تحدد العلاقات بين المواطن والدولة، وتشمل الحقوق والحريات والامتيازات التي يتمتع بها المواطن، وواجباته ومسؤولياته والتزاماته تجاه وطنه، وبالتالي يمكن القول بأن المواطنة تعني الروابط القانونية والسياسية التي تجمع الفرد المواطن بوطنه.

ولعله من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر قد ميزوا تمييزاً واضحاً بين وجهي الغرب:  الغرب الاستعماري الذي قاوموه داخل أوطانهم.

وغرب التقدم الذي حاولوا الاقتباس منه.

 فتحدثوا عن الحريات العامة في أوربا، وعن الدساتير، وعن حقوق المواطنة، وعن دولة المؤسسات، وتبين أن حديثهم في رحلاتهم إلى أوربا لم يأت مصادفة، بل كان هادفاُ إلى إطلاع الرأي العام العربي والإسلامي يومئذ على مظاهر التقدم التي يتمتع بها الغرب، وهي مظاهر أفرزها عصر الحداثة.

لقد برز مفهوم الوطن والمواطن بالمعنى الحديث في أدبيات الفكر الإصلاحي العربي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، فلم يتحدث رواد الإصلاح عن المواطنة، ولكنهم استعملوا مفهوم حب الوطن وربطوه بالحرية، وبالحكم المطلق الاستبدادي الذي زهد في الوطن بالأمس، ويزهّد في المواطنة اليوم.

وخلاصة القول إن المواطنة تعني بشكل بسيط وبدون تعقيد: انتماء الإنسان إلى بقعة أرض،أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركاً في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها ويتمتع بشكل متساوٍ مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها.

العدد 1105 - 01/5/2024