صدى الصرخات اليائسة

في علاقتنا الحدسية بصورة الرب الكلي القدرة، تتعاطف أقدرانا وتتعاشق في متاهات مضيئة، تعنون محاولاتنا المستمرة لفهم غموض إدراكنا واتساعه ضمن قالب المحدودية التي يفرضها شرطنا الإنساني.. ومع تبعثر حكاياتنا تتصادم الاتجاهات ليتوجب علينا حدس الحقيقة عبر صدق النوايا وصفاء القلوب.. وهو حال كونور جوشوا (Russel Crowe ) بطل فيلم the water diviner) ) والذي فقد أبناءه الثلاثة في معركة غاليبولي في تركيا عام 1915.

يعمد النجم الأسترالي راسل كرو في تجربته الإخراجية الأولى إلى تجسيد قصة حقيقية تعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى، حين قاتلت فرق أسترالية ضد الإمبراطورية العثمانية، فبلغت خسائر الرجال عشرة آلاف جندي، تبعثرت أجسادهم فوق الجزيرة التركية التي تحمل اسم جينكالا. وإضافة قتلى الأتراك السبعين ألفاً، تكون الجزيرة قد تحولت إلى مقبرة كبيرة تجاور البحر كتحدٍّ إلى حزين يذكّر بعبثية أن الموت والحياة قرينان لا يفترقان.. ومع مرور أربعة أعوام تسقط الجزيرة بيد القوات البريطانية مما يفسح المجال لاستعادة ما أمكن من جثث الجنود العائدين لها. فيرتحل المزارع الأسترالي جوشوا إلى هناك ليعيد أجساد أبنائه إلى موطنها لتدفن في بقعة مطهرة منه. ومن خلال سعيه تُستعاد ذكرى أولئك الجنود المفقودين والمجهولين.. 

يبدأ الفيلم بدفتر جلدي صغير يحاول نقل اللحظات الأخيرة في حياة شاب تواجد في الجبهة المشتعلة.. فترتسم الخيالات من خلف ستار من الخيش على ضوء شمعة، وتنهض معها مخاوف الجنود وقلق قادتهم، يأسهم وآمالهم بالنجاة، تضرعات مشايخهم.. وعلى الطرف الآخر من العالم يشق جوشوا الأرض بحثاً عن الماء ليروي يباب الأرض القاحلة، بعد أن تلمس مكانه بعصيه الخشبية. ومثلما سجن المزارع نفسه في مجهوده المتعب، أسرت زوجته روحها في قبضة الوهم، حزناً على أولادها، حتى انتحرت في النهاية. هذا التقابل بين حدَّي الحياة والموت يتواتر كثيراً في الفيلم على شكل لوحات بصرية رائعة.. خاصة حين يوازن (كرو) طرق الإيمان بين الطقسية الجافة والصوفية الإشراقية. فبينما يساوم الكاهن اللئيم جوشوا على عربته مقابل دفن المنتحرة في أرض الرب المختارة، يدور الدراويش المولوية وهم يحيّون الحق باسطي الأذرع، سخرية مريرة تذكر بعبثية مناقشة التكفيريين والتلموديين…

يصل جوشوا إلى إسطنبول بعد ثلاثة أشهر من الإبحار، ليصطاده طفل تركي يدعى أورهان، ويأخذه إلى فندق والدته عائشة، الحالمة بزوج إنكليزي ينقذها من عبء الزواج بشقيق زوجها المتوفي. لكن المزارع الأسترالي يُخيّب آمالها بتجدد شغفها بتفاصيل الحياة الأوربية، فتنصحه برشوة صياد كي يأخذه إلى جينكالا، بعد رفض المكتب الحربي البريطاني منحه التصريح المطلوب للذهاب. وحين يصل إلى هناك يجد في انتظاره وحدة مقابر الحرب العالمية، التي يرفض قائدها البريطاني مساعدته في إيجاد رفات أولاده الثلاثة. فيتدخل الضابط التركي حسن لصالحه كونه الأب الوحيد الذي أتى بحثاً عن أولاده، ليصبح أعداء الأمس أصدقاء.

 أثناء تجوال جوشوا بين القبور الارتجالية، يحرك إصبعيه كأنما يبحث عن الماء، وفي الوقت نفسه تتجدد المعركة أمام عينيه. ويسهم الرائد حسن بإذكاء تفاصيل الاقتتال الوحشي إبان الأيام الثلاثة الأخيرة، ليكشف عن نجاة الابن الأكبر لجوشوا.

تعود المشاهد المتقابلة للتواتر بقوة مع ذكرى العاصفة والاحتماء تحت غطاء السترة وقص إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، والتي تدور حول بساط علاء الدين السحري. وللمفارقة هي ذات الحكاية التي سيتلوها جوشوا أمام قبري ولديه كصلاة أخيرة قبل أن يتركهما قرب البحر مع شاهدة تنفي عنهما التيه. فأرض المعركة لم تعد معادية، بعد أن روتها دماء آلاف الجنود من الطرفين.

العدد 1105 - 01/5/2024