ما بين خطابَيْ العلم والدين؟

 تنزع الفئات المشاركة في حوارات عامة حول قضايا عامة مثل: الدين والعلمانية والعولمة، هذه القضايا تهم المجتمع متعدد الثّقافات، إلى عدم التّخاطب مباشرة، لأنها تحدد ماهية الموضوع تبعاً لمعاييرها الخاصة، مما يجعل حريّة التّعبير مرتبطة بآراء مغلوطة، وتعابير مهينة للأديان والمجتمعات الدّينية.

وبرغم أن الحوار هو الطّريقة الوحيدة المقبولة أخلاقياً لحل القضايا الخلافية، فإن إمكانياته لا تتوفر دائماً حتى في ديمقراطيات ليبرالية ناضجة، إذ ينزع كل مجتمع إلى تقبل بعض الأمور على عواهنها نظراً لصعوبة تصور أي مجتمع إنساني يتمتع أفراده بعقل منفتح حول كل القضايا، فيكون حينها للاحتجاج مكاناً مشروعاً في هذا المجتمع. وبالتالي فأية نظرية مدروسة لتداول الرأي السّياسي، لا يمكنها الاعتماد على قوة الإقناع فحسب، بل تحتاج إلى تقصي الأحوال التي يكون الاحتجاج فيها مبرراً، والشّكل الذي يجب أن يتخذه، وكيف يمكن دمجه ضمن أطر الحوار العقلاني؟

فالمنطق والجدل مفهومان مرتبطان أحدهما بالآخر، ولكنهما بالوقت نفسه منفصلان منطقياً، والمساواة بينهما خطأ عقلاني مألوف، فكل الحجج تتضمن أو تستند إلى أسباب، وليس العكس بصحيح. فميل المجتمعات التّقليديّة، إلى جعل المقدّس على مسافة من الأفراد والمجتمعات له أسباب عديدة منها: أن المقدّس بحسب تشبيه (روجيه كايوا Caillois) كالنّار التي تدهش الطّفل وتخيفه، وقد يقترب منها فيحترق المقدّس الذي هو مجال الخطر والممنوع الذي يمكن تعريفه بنقيضه الدّنيويّ، وهو مجال (الاستعمال المشترك، والأفعال التي لا تتطلّب أيّة حيطة، وهي تقع عادة في الهامش الضّيّق والمتاح غالباً للإنسان، حتّى يمارس نشاطه دون إكراهات).

أما المقدّس حسب (ميرسيا إلياد) فيظهر باعتباره واقعاً، من قبيل آخر مختلف عن كلّ الوقائع، فهناك واقعيّة ما ومبدأ اقتصاد ومجهود أدنى، وظيفتهم حماية البشر من مطلقات المقدّس وإكراهاته، وواجباته التي قد تتمدّد وتأتي على الحياة العمليّة، لتبدو نار المقدّس تغري بالاحتراق أو الإحراق وبالانخطاف، إلى وهم ملتهب متوهّج وراء الواقع، كما أن وظيفة جعل المقدّس بجنانه وناره على مسافة من الأفراد، من خلال ممارسات بعض المجموعات التي اضطلعت بها المؤسّسة الدّينيّة، هو ما يفرض علاقة زمنيّة خاصّة بالطّقوس، من خلال تواتر إيقاعها في حياتنا اليّومية، ومن أنها تجعل المؤمن يدخل في حالة إحرام ثمّ يخرج منها، وهي الحالة ذاتها التي تفصل بين رجال الدّين وعامّة النّاس كي تخلق واسطة بينهم وبين المقدّس، عبر إدارة المقدّس التي نلاحظ أنها تبدي الحذر من التّصوّف، لكون البعد الصّوفي للمقدس يعطيه معطيات أخلاقية تضعه في إطار فلسفي واسع، ولأنّ المتصوّف قد يتحوّل إلى فراشة إلهيّة تلقي بنفسها على نار المقدّس، فالمؤمن مهما كان عمق إيمانه، لا يمكن أن يبقى طويلاً في حضرة المقدّس، ولا يمكن أن يبقى طويلاً بلا حاجز يقيه من ناره المتوهّجة .

إن العيش وفق المعتقدات الدّينية، تجعل الإنسان في حالة رقابة شديدة لذاته قد تُضيّق به الخناق على مجريات تفكيره النّقدي. تبعاً للمفكر المصري الدّكتور فؤاد زكريا الذي يركز على منهج التّفكير العلمي وإعمال العقل بقوله: (صحيح أن العقل مازال يجهل الكثير ومازال عاجزاً عن تفسير الكثير، إلا إنه أفضل أداة نملكها كي نعرف عالمنا ونسيطر علي مشاكلنا). يكمل القول: إن جموع النّاس تبحث عادة عن الأسهل والمريح وتتجمع سويّاً، حول الرأي الواحد مثلما تتلاصق أسراب الطيور، لتحمي نفسها من الصقيع، وكلما كان الرأي منتشراً ومألوفاً، كان في انتشاره نوعاً ما من الحماية لصاحبه، إذ يعلم أنه ليس الوحيد المؤمن به، بل يشعر بدفء الجموع الكبيرة وهي تشاركه إياه، ويطمئن بأنه يستظل تحت سقف الأغلبية.

وفي البحث حول الصّلة بين الخطاب العلمي والواقعي، يبرز لديّ التّساؤل التّالي: هل المفهوم الحالي للإنسان في العصر الحديث يتيح لنا تأكيد القول: بأن التّكنولوجيا أصبحت معيار الحقيقة، في مقابل القيم الإنسانية، وبالتّالي ماذا يمثل موضوع اللاوعي، بالنسبة إلى فهم الإنسان؟

العدد 1105 - 01/5/2024