من عمق الغوطة

لا نقصد من مقالتنا هذه الإساءة إلى أحد، إنما نبتغي تسليط الضوء على منطقة واسعة غالية من أرضنا الطيبة، تتعرض لأسوأ كارثة إنسانية بيئية، ستمحو، إذا ما استمرت تداعياتها، البشر والشجر والحجر، وتستحق من كل ذي بصيرة وطنية التفاتة سريعة لإنقاذ مايمكن إنقاذه.. إذ يوجد حالياً أكثر من مليون نسمة داخل مدن الغوطة الشرقية (دوما، عربين، حرستا، سقبا، كفربطنا).

حقيقة، تشعر وأنت تسير في مدن الغوطة الشرقية وبلداتها بأنك في عالم آخر.. كوكب آخر لا يمتّ إلى المدنية بصلة، وكأن هذه المدن لم تكن موجودة قبل2011. الظروف والمشاهدات تشعرك كأنك في (تورا بورا).. أولى المظاهر تتجلى في:

– ليس هناك أي وجود للدولة ومؤسساتها.

– سيارات من مختلف الأنواع عليها أعلام مختلفة تتبع مجموعات مسلحة، تتبختر في شوارع المدن بطريقة استفزازية صارخة.

– ذبول الأشجار وشحوبها على أطراف الطرقات وفي الوسط، الكثير منها قُطع بغرض التدفئة.. الطرقات شبه خالية لا حياة فيها.

– وجوه الناس كئيبة، يملؤها القهر والحرمان، ونظرة حنين للماضي.

– من يملك دراجة عادية من الناس، كأنه يملك سيارة أحدث موديل، بسبب غلاء الوقود.

الوضع الزراعي والخدمي

تحتوي الغوطة الشرقية على نحو 30 مليون شجرة حسب التقديرات، وهي تتعرض اليوم لليباس شبه الكامل هذه السنة، إذا لم يُتدارك الوضع الكارثي، بتأمين المستلزمات الزراعية (مازوت، أدوية، بذور.. إلخ)، بالأسعار المعتادة، وليس بأسعار المناطق المحاصرة.

نظرة سريعة إلى أسعار المواد الغذائية والوقود، تشعرك بالرعب والخوف.. معظم الأسعار محلقة عشرات الأضعاف عن المناطق التي تحت سيطرة الدولة:

مازوت (ليتر): 1700 ل.س.

سكر (كيلو): 1500 ل.س.

أسطوانة غاز: 30 ألف ل.س.

بنزين (ليتر): 3500 ل.س.

ربطة خبز قمح: 1300 ل.س.

ربطة خبز شعير: 800 ل.س.

برغل (كيلو) 1200 ل.س.

فول (كيلو) 1300 ل.س.

أسعار الدواء غير معروفة لعدم توفره.. المستلزمات الزراعية غير متوفرة إطلاقاً، وإذا توفرت تكون أسعارها حسب المزاج الخاص.. أما بالنسبة للخدمات فهذه غير متوفرة، وكلها تعتمد على الجهد الشخصي في تأمينها.. الماء والكهرباء والهاتف كلها مقطوعة.. ترحيل القمامة هو جهد شخصي يفتقر لأدنى مقومات الصحة العامة.. حقيقة، الأوضاع مزرية للغاية ومأسوية، وهي على أبواب كارثة حقيقية، خطوط الصرف الصحي الراجع قُطعت، محطاته المتواضعة على امتداد الخط الذاهب سرقت ونهبت محتوياتها، تراجع المنسوب المائي عشرات الأمتار، لا أحد يتحرك بعد المغيب بسبب التشليح والابتزاز.

فقدان الأمان يرعب البشر، لذلك انتشرت محلات بيع السلاح والدخان والتهريب والعملات، وانتشرت عصابات ومافيات مرعبة حتى أصبح لها سجون خاصة بها، الجميع يتكالبون على نهش المواطن المسكين.

المدارس.. التعليم

أنشأ المسلحون ما يسمى (المكتب التربوي الثوري) في معظم مناطق الغوطة، استبدلوا بالعديد من المقررات الدراسية أخرى تتناسب مع مفرداتهم الخاصة، لكنها لا تقدم ولا تؤخر في مجمل العملية التربوية، وتُدفع رواتب زهيدة للمدرس (بين 5 و8 آلاف ليرة)، ودون مرجعيات تربوية تعليمية حقيقية.. بينما يوجد 15 مدرسة مختلفة في مدينة دوما وحدها تتبع مديرية تربية الريف، ولكن يوجد صعوبة في التواصل مع المديرية بسبب الحواجز النظامية وغير النظامية، والموافقة للدخول والخروج.

أيضاً هناك بعض موظفي المحافظة وغيرها فُصلوا من أعمالهم، لعدم تمكنهم من الوصول إلى عملهم لفترات طويلة، لكن من الواضح أن الناس يريدون إرسال أولادهم إلى مدارس الدولة، وتبذل الجهود لعودة موظفي المحافظة إلى أماكن عملهم.

مشاهدات ولقاءات

الفلاح أبو خليل: كنا عايشين بخير وأمان، نريد العودة لبيوتنا، أشجاري عمرها 15 عاماً، وهي تتعرض للجفاف واليباس، ولا أملك قوت يومي، فكيف أشتري ليتر المازوت بـ1700ل.س؟

الشاب أحمد: ماذا نفعل؟ هناك آلاف الشباب التحقوا بالمجموعات المسلحة لعدم توفر فرص عمل، وهذه المجموعات ترفض إيصال الكهرباء النظامية، لأن ذلك يعني عودة الناس إلى أعمالهم ومهنهم. أحد أعضاء مجلس المدينة الحالي فكّك الكثير من خزانات الكهرباء، وتصرّف بها!

أحد الأشخاص (رفض ذكر اسمه): نريد الخلاص.. إذ لم يقبلوا بالتسوية والمصالحة ماذا يريدون؟ ما يفكرون به ذهب أدراج الرياح.. ماذا حصدنا من كل ذلك؟ وماذا جنت المجموعات المسلحة غير الدمار والتشريد لهم ولأهاليهم؟

نقاش بيزنطي

* سألنا أحد المتشددين عن رأيه بالأوضاع فقال:

** (الثورة) لها ثمن، والتغيير يحتاج إلى تضحية.. نريد عودة الدولة الإسلامية..

* قلنا له: الواضح أنكم ضحيتم بالإنسان البائس والفقير، وأصبح ذليلاً لا يملك قوت يومه.. ألم تسمع بما فعل المتظاهرون بمستودعات الهيئة الشرعية، وماذا وجدوا؟ لماذا لا يشعر أعضاء الهيئة الشرعية بالجوع والتشريد والبرد؟

** قال: الذين تظاهروا هم رعاع، أزلام النظام يؤخرون الانتصار، سنحاسبهم.

* قلنا: لكن الواضح أن أغلبية الناس تنحو باتجاه الخلاص والعودة والأمان.. هل ما تفكرون به بعد ثلاث سنوات مازلتم تقتنعون به… أليس ذلك سراباً؟

** قال: لن ننهزم، مشروعنا شرعي حتى آخر قطرة.

أنهينا النقاش عند هذه النقطة، لعدم القناعة باستمراره.

لا أستطيع سماع فيروز وأم كلثوم!

أحد الأشخاص تكلم بنبرة حزينة: أنا لا أعرف ماهية هؤلاء المتطرفين والسلفيين.. أنا أحب فيروز وأم كلثوم، ولا أستطيع سماعهما، لأن ذلك يعرضني لخطر شديد. إذا كانوا هم مشروع (جهاد)، فأنا لا أفرض عليهم قناعاتي وأسلوب حياتي.. لقد بدأت تظهر أعراض أمراض نفسية بسبب ما آلت إليه الأمور.

ومن خلال لقاءاتنا تبيّن أيضاً وجود أمراض معوية مختلفة، إذ لا يوجد رقابة على المياه، ومعظم الناس تأكل خبز الشعير المخلوط ببعض القمح، واستخدام مواد أخرى غير صالحة للاستخدام البشري.

المصالحات

حقيقة، كانت هناك عدة بوادر للمصالحة في الغوطة الشرقية، وبالأخص في مدينة دوما، لكن لم تكن مبادرات جدية.. هناك بعض الفاعلين المؤثرين لا يرغبون في ذلك، بسبب الأرباح الهائلة التي يحققونها من الحصار المفروض، رغم الرغبة الشعبية العارمة في المصالحة، وهناك بعض المجموعات الأصولية التي ترفض حتى مجرد ذكر كلمة المصالحة.. مراكز اتخاذ القرار متعددة.. تحتاج إلى نقاش عشرات المجموعات المسلحة لإنجاز هدنة.. وعندما تسأل أصحاب القرار: ما هي البدائل لهذا الشعب المسكين الذي يأكل خبز الشعير؟ لا تجد عندهم سوى إجابة واحدة: الرسول (ص) وأصحابه صبروا.

أحد الخبثاء سأل: إذاً فلنأت بالخيول والجمال وبيوت الشعر والريح والسيف، ولنستحضر الحالة الماضوية بكل مفرداتها.. فرد عليه أحدهم: لا نريد مدنيتكم، اتركونا لحالنا.. لا نريد هذه الحضارة المزيفة! فرد عليه الخبيث ذاته: لماذا تحمل جوّالاً وتشاهد التلفاز؟ أليس الأفضل لكم أن تتركونا نحن نعيش في بلادنا، وتذهبوا إلى الجزيرة العربية وتعيشوا اللحظة الحقيقية، وتقرظوا الشعر والمعلقات، ولا مانع من النثر والمقامات (قالها بتهكم شديد)!

الحاضنة الشعبية

كل من يتجول في مدن الغوطة يسمع حديث الناس ويروي لسانهم ما حل بهم من مصائب وأهوال من سرقات بيوتهم وممتلكاتهم.. لقد انقشعت الغشاوة عن الكثيرين، وهم يشيرون بأصابعهم إلى لصوص المسلحين، والاغتناء الفاحش لبعضهم، لسان حال الناس يسأل: إذا كانت المجموعات المسلحة تستطيع إدخال السلاح والهاون، فكيف لا يستطيعون إدخال المواد الغذائية والأدوية؟ وما سبب اغتناء البعض اغتناء فاحشاً؟ الحاضن الشعبي انحسر إلى درجة أن بعضهم حيا رئيس الجمهورية أمام بناء الهيئة الشرعية في دوما!

الغوطة الشرقية لم تكن يوماً حاضناً شعبياً للفكر الوهابي الظلامي، في هذا السياق نورد ما ذكره الأستاذ ناصر السعيد في كتابه (تاريخ آل سعود) الصادر عن مطابع الاتحاد في بيروت (طبعة أولى) ص 842-844 (قصة فتوى وهابية سعودية) بحق مواطن من الجزيرة العربية مقيم في مدينة دوما في ريف دمشق، طالب بحقه من إرثه، الذي استولى عليه أحد تجار الدين.. حين قال المفتي السعودي: (كفى.. كفى! إن أهالي دوما هم الذين طردوا الإمام محمد بن عبد الوهاب من بلادهم، وقالوا عنه يهودي.. وأهالي دوما ودمشق وسورية كلها من الكفار، وأنت أكفر منهم، لأنك تعيش بينهم.. رغم أن المواطن جلب فتوى من قاضي دوما ومصدق عليها مفتي سورية أبو اليسر عابدين عام 1957 تشهد بإسلام هذا الشخص، لكن المفتي السعودي قال له: (اذهب أنت كافر ما دمت في ديار الشام)..

أوردت هذا المثال لأوضح الحقد وعقدة النقص لدى آل سعود تجاه بلاد الحضارة والتعايش.

خاتمة

حقيقة، من يؤخر قطار التسويات في مناطق الغوطة، هو الفساد الذي جلب نتائج كارثية على الدولة والمجتمع.. هناك قوى مستفيدة من استمرار الوضع الحالي. وظهرت قوى أخرى ومافيات تمنع عودة الوضع الطبيعي.. وهي موجودة لدى بعض المقربين من النظام ولدى المتشددين.. تُدفع الأتاوات المرعبة على الحواجز، تُفتعل اشتباكات عند اجتماعات التسوية، تصوّر التسوية على أنها مكيدة من هذا الطرف تنال الطرف الآخر وبالعكس.. في داريا وحدها مستودعاتها تحوي عشرات الألوف من قطع الموبيليا، وهي غنيمة لا تقدر بثمن، رغم كل ذلك هناك ضغط شعبي كبير باتجاه المصالحة الوطنية، ودور الدولة والفاعليات المجتمعية هام جداً، وقد تكون التنازلات مؤلمة، لكن لابد من ذلك.

العدد 1105 - 01/5/2024