الأنفاق الضيقة بين الدين والدولة

 تسيطرُ على بلدان الشّرق الأوسط عامّةً، والأقطار العربيّة خصوصاً، حالاتٌ عقيمةٌ ومريرةٌ جدّاً من الفوضى والصّراع الدّامي الذي أفرزَ حالاتٍ أُخرى أشدَّ إيلاماً، كاستمرار القتل والموت المجّانيِّ والهجرة العشوائيّة ومحاصرةِ المدن والقرى، والنّزيفِ الاجتماعيِّ والاقتصاديّ والأخلاقيّ. وتبدو هذه الظّاهرةُ المأساويّة بارزةً في سورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن، وكثير غيرها من المناطق والدّول العربيّة والإسلاميّة.

وحقيقة الأمرِ أنّ هذا الصِّراعَ الحادَّ وهذه الفوضى المُسيْطِرة ليستا حديثتَي العهدِ، بل هي مُزمنةٌ وتعودُ في جذورها إلى حقَبٍ تاريخيّةٍ قديمةٍ مضَتْ، ولا تنغلِقُ أسبابُها على عنصرٍ واحد. إذ هناك أسبابٌ اقتصاديّة واجتماعيّة ومذهبيّةٌ وسياسيّة ، وأسبابٌ أخرى كثيرة داخليّة وخارجيّة. ويجدرُ بنا عند تحرّي هذه الأسباب ودراستها، أن نقفَ عند سببٍ رئيسٍ جدّاً ألا وهو خلطُ مُقوِّماتِ الدّين مع مُقوّماتِ الدّولة… هذا الخلطُ الّذي لا يخضع لِمقولات العقل ولا لِمنطقِ الحياة، يبقى السّببَ الرّئيسَ في معاناتنا النّازفةِ والكوارثِ الإنسانيّة التي تتعرّضُ لها سورية وكثير من الأقطار العربيّة. إنّ هذا الخلطَ بين مُقوّماتِ الدّين ومقوّمات الدّولة، يُعَدُّ أحَدَ أهمِّ الأسبابِ المُفجِّرةِ للصِّراعِ الدّمويِّ الّذي يجرُّ وراءَه ذيولَ التّخلُّفِ والانحطاطِ الاجتماعيّ والثّقافيّ والاقتصاديّ. إذ إنّه، أيْ هذا الخلطُ، يؤدّي إلى فسادِ الدّين والدّولة معاً، فلا يبقى في ربوعنا لا دينٌ صالحٌ ولا دولةٌ صالحةٌ…

لقد مرّتْ أوربّا في العصور الوسطى بتجربةٍ مُماثلة، فقد تدخّلتِ الكنيسةُ في حياة النّاس اليوميّة، وسيطرَت على مرافق الحياة العامّة ومفاصل الدّولة والحاكمين، وكانت أيّةُ محاولةٍ للإصلاح والتّطوّر تُواجَهُ بالقمع، وأيّة فكرةٍ جديدةٍ تُصدُّ بوسائلَ قمعيّة فظيعةٍ بذريعة الحفاظ على القديمِ والأصول. فاضطّهِدَ العلماءُ مِنْ أمثالِ كوبرنيكوس وغاليليه، وكثيرٍ غيرهم من رجال الفكرِ النّيّر المُتطوّر…

وجاءَ زمنٌ غير قريب، صحا فيه المجتمعُ الأوربيُّ ومؤسّساتُه ومنظّماتُه وحتّى مؤسّساتُه الدّينيّة، إذ أُعلِنَتْ في رِحاب القرن السّادس عشر الميلاديّ قراراتٌ رائدةٌ علمانيّة وعقلانيّة، تقضي بفصل الدّين عن الدّولة. وسرعان ما ظهرَتْ على إثرها وبتأثيرها مُقوِّماتُ الدّولة الحديثة المُتطوّرة بكلّ أبعادها وتخصُّصاتِها : الجيشُ النّظاميّ بدورِه الدّفاعيّ المُحدّد – المحاكم القضائيّة المستقلّة النّزيهة – المؤسّساتُ الاقتصاديّة بدورها الإنتاجيّ… ومن جرّاء ذلك انتعشَتْ واغتنَت تُربةُ التّقدُّم الحضاريّ بكلّ أبعاده وجوانبه، فقد زُرِعَتْ بذور عصر النّهضة الرّائد الّذي دفعَ بكلّ أوربّا إلى الأمام، ووضَعها في خضمِّ الحياة المعطاءَة، كما برزَ دوْرُ المُفكِّرين والكتّاب والفلاسفة والفنّانين المُبدعين، وفُتِحَ البابُ واسعاً أمامَ نهجِ التّطوُّر والاختراع والاكتشاف، وتفتّحَتْ براعمُ كلِّ جديد. الأمرُ الّذي أوصلَ أوربّا إلى ما هي عليه الآن من تطوّر علميّ وثقافيّ وحضاريّ في كلّ جوانب الحياة الإنسانيّة…

واضحٌ جدّاً أنّ البلادَ العربيّة والإسلاميّة قاطبةً تُعاني حاليّاً مُعاناة مرّة مِنَ الآثار السّلبيّة لعصور الانحطاط الّتي مرَّتْ بها أوربّا في العصور الوسطى وللأسبابِ ذاتِها، على الرّغم من اختلاف الدّين. هذه المُعاناةُ المُرّةُ مُغرِقةٌ في القِدَم وليسَتْ حديثة العهد ، تعودُ إلى زمن ابن المُقفّع وما قبلَه وحتّى أيّامنا الرّاهنة هذه، مروراً بابن سينا والرّازي والسّهروردي وابن الهيثم وابن رشد وابن الطّفيْل، ووصولاً إلى عالم الفيزياء العراقيّ الشّهير عبد الجبّار عبد اللّه تلميذ العالم الأشهر أينشتاين…الفرقُ بيننا وبين أوربّا الآن أربعةُ قرون زمنيّة ونيّف، فلِماذا لا يتعلّم العربُ والمسلمون مِن تجارب التّاريخ، ويختصرون عصوراً قاتمةَ السّواد من الفوضى والقتل والدّمار والمآسي ؟.

يبدو أنّ السّببَ المانع، هو أنّه ما يزالُ هناكَ إصرارٌ عشوائيّ على أنّ الدّين بشكلً عام والدّين الإسلاميّ الّذي يُشكِّلُ أتباعُه الشّريحة الكبرى مِنَ المجتمع العربي والشّرق أوسطيّ، هو دينٌ لا بديلَ عنه لِبِناء الدّولة ومُمارسة السّياسة والمجتمع والاقتصاد، وكأنّه يَفترِضُ أنّ عقولَ النّاس نُحِتَتْ مِنْ حجرٍ أَصمَّ لا مجالَ لديها للتّفكيرِ والتّغيير والإبداع…

قد يصلحُ الدّينُ لِبناءِ مُجتمَع ما في حالة غيابِ الدّولة، كما كان الحالُ في الجزيرة العربيّة قديماً، حيثُ لا مواردَ عيشٍ ثابتةٍ فيها ولا كياناتٍ اجتماعيّة مُتبلوِرة ولا سلطةٍ تملك السّيطرة على مرافق الحياة، ولا ضوابطَ للقبائل المُنتشرة والمُتنقِّلة إلاّ ما يسنُّه زعيم القبيلة. الأمرُ الّذي جعلَ الغزوَ والسّبيَ والاعتداءَ أُموراً شائعةً بل مشروعةً. ومع ذلك فإن هذه الحالةَ العشوائيّة المُسيَّبة كانت تبدو شاذَّةً جدّاً بالمُقارنة مع حضاراتٍ مُجاورةٍ نشَأَتْ على شواطئ المتوسّط كحضارة الكنعانييّن والآراميّين والفينيقيّين، وحضارات ما بين النّهرين وبلاد الشّام ومصر…

نحنُ الآن وبعد مرور ما يقرُبُ من خمسة قرون… لقد تغيَّرَتِ الأحوالُ والمقاييس واحتياجاتُ الدّولة، وأصبحَ العالَمُ المُنقطِعُ عن بعضِه عالَماً صغيراً ومُتواصِلاً ومليئاً بالتّجارب الإنسانيّة النّاجحة والفاشلة، ولم يعُدِ الدّينُ بعطائه الأخلاقيِّ والرّوحيّ قادراً على تغطيةِ وتلبيَةِ حاجات المجتمعات الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة والعلميّة والتّقانيّة…علينا إذاً أن ننهلَ ممّا ثبَتَ نجاحُه من تجارب الشّعوب، ونتركَ ما ثبتَ فشَلُه مِن ممارساتنا وإصْرارِنا اللاّعقلانيّ. إذْ ما أسْوأَ أن نُصِرَّ على الخوض في تجاربنا الفاشلة ونُرقِّعَها ونُجمِّلَها ونعتبرها تعنُّتاً أنّها صالحةٌ لكلّ زمان ومكان، مُتقوقعين في كهوف الماضي، عازلين أنفسَنا عن كلِّ تجارب العالَمِ الخلاّقة والنيِّرة…

عندما يسعى أَدعياءُ الدّين والتّديّن إلى مراكز السّلطة والقرار عبرَ الوصولِ إلى الحكم، تُصبِحُ البلادُ في خطَرٍ. فعلى مدى أحقابٍ عديدةٍ، لعِبَ السّياسيّون بالدّين وارتدَوا عباءَةَ دين مُزيَّفةٍ لِتحقيق مصالحهم وثرواتهم. ولعِبَ رجالُ الدّين بالسّياسة لِتحقيق مصالحهم الذّاتيّة شهوات الحكم والتّسلُّط. فماذا كانت النّتيجةُ؟… كانت انهياراً لكلّ القِيَم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة وحتّى الرّوحيّة منها…

حاليّاً، وفي العديد من الأقطار العربيّة والإسلاميّة لا بل فيها كلِّها، لم يعد الدّينُ أحدَ وسائل الاطمئنانِ النّفسيِّ والحياتيّ، بل باتَ سلاحاً خطيراً يُشْهَرُ في وجهِ الآخرِ لِغاية الوصول إلى السّلطة، وهذا يعني إشادة ديكتاتوريّة قمعيّة عنيفةٍ بلبوسٍ آخرَ غير سياسيّ…

على الدّين أن يتراجعَ عن سطوتِه البشريّة إلى رِحابِ مهمّتِه الرّوحيّة في دُورِهِ الخاصّة، لِيُمارسَ مَهامَّهُ التي أَناطَها به كنْهُ الدّين وروحُه السّمحاء، ويتخلّى عن تطلُّعاتِه الفاشلة في إَخْضاعِ الدّولة ومؤسّساتها. بذلكَ يتسنّى للدُّول العربيّة والإسلاميّة الحفاظُ على دينٍ نقيٍّ سليمٍ ودولةٍ ناجحةٍ مُتطوِّرةٍ فاعلة…

إنّ فصلَ الدّين عن الدّولة يُشكِّلُ ضماناً أكيداً لِسيْرورة دينٍ قويمٍ تربويّ، ودولةِ مُؤسَّساتٍ ناجحةٍ متطوّرةٍ قويّة، ومجتمعٍ يُعطى فيه كلُّ ذي حقٍّ حقَّه لِيمارسَ دورَهُ في بناءِ الحضارة والتّقدُّم. عندئذ يستطيعُ المواطنُ أن يُمارسَ حياتَه الدّينيّةَ كما يشاء، فلا أَفضليّةَ لِدين على آخر، ويظلّ شعارُ (الدّينُ للّه والوطن للجميع) شعاراً جامعاً مانِعاً يُغْني الحياة ويفتح أمامَها آفاقَ النّجاح والتّطوّر…

العدد 1105 - 01/5/2024