المدبر واحد!

من الواضح أن هجمات 11 أيلول عام 2001 التي استهدفت برجي التجارة العالمي والبنتاغون، بعد مضي نحو أربعة عشر عاماً على حدوثها، هي بمثابة القاعدة التي ستستنسخ وفقها هجمات أخرى في الولايات المتحدة وأوربا، كلما احتاج إليها العقل المخطط لتنفيذ أجنداته أو لتغيير مساره أو بدء مرحلة جديدة، أو متى شعر بضيق هامش المناورة في مشاريعه وتحركاته، لاسيما إذا كانت تحتاج أسباباً ومسببات وأغراضاً من العيار الثقيل يحاكي هجمات 11 أيلول التي لايزال ينظر إليها على أنها غيّرت مفاهيم وقيماً وخرائط ومبادئ، وانتهكت سيادة دول، واستهدفت رسالة سامية وشوهتها كرسالة الإسلام. فقد أعلنت عليها الحرب تحت شعار (الحرب على الإرهاب) والشعار البوشي (من ليس معنا فهو ضدنا)، فالهجمات التي ضربت فرنسا مؤخراً وما رافقها من تفاعلات وإثارة رعب وإدانات دولية وتعاطف (مزيف) تعيد إلى الأذهان التفاعلات والإدانات والإثارات ذاتها التي صاحبت هجمات 11 أيلول، سواء بالنسبة للمتهمين أو من حيث المنفذين وعمليات الإعداد والتدريب واختيار الهدف بعناية ودقة بالغتين.

من ينظر بإمعان إلى طبيعة الجناة والفاعلين، يخرج باستنتاج أن هناك عملاً استخبارياً كبيراً ودقة عالية في التنفيذ من قبل الفاعلين، سواء في هجمات 11 أيلول أو في الهجوم على مجلة (شارلي إيبدو) الساخرة.. فمنفذو هجمات أيلول دربتهم الأجهزة الرسمية الأمريكية على الطيران، وحين اختاروا الأهداف من حيث الزمان والمكان، كانت عملية تسهيل مرورهم واختيارهم الطائرات مثيرة للشك، بأن ترتيباً استخبارياً ما أو تواطؤاً ما كان وراءها، كما أن انتماءاتهم كانت معروفة لدى الأجهزة الأمنية.. كذلك الحال بالنسبة للقائمين بالهجمات في فرنسا وتحديداً على مجلة (شارلي إيبدو) الساخرة، فهي تشي بأن عملاً استخبارياً كبيراً كان وراء ذلك، إلى جانب الدقة العالية في التنفيذ. أما الفارق الوحيد بين المنفذين، فهو أن منفذي هجمات أيلول تدربوا داخل الولايات المتحدة، بينما تدرب منفذو هجمات فرنسا في سورية واليمن والعراق، وبالرعاية الأمريكية والأوربية التي تتستر خلف دعم ما تسميه (المعارضة المعتدلة) ودعم الشعب السوري.

ولكن هناك خيطاً رفيعاً واحداً بين هجمات أيلول وهجمات كانون الثاني في فرنسا يشير إلى الفاعل الحقيقي المدبر لهذه الهجمات، ويتجسد في مسارعة الصهاينة إلى اتهام ما أسموه (الإسلام المتشدد المتطرف)، والدعوة إلى إعلان الحرب عليه لجني ثمارها.. فالمستفيد الأول والأوحد من هاتين الهجمتين هو إسرائيل، والهجومان يؤكدان – حسب تقديرات العديد من الخبراء والمحللين السياسيين- وجود يد للموساد الإسرائيلي في ذلك.. وعادة ما يضطلع الموساد بجرائم كهذه من الدرجة الأولى، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وبالدولة الفلسطينية، وهو ما يظهر من خلال عدة أمور أهمها:

1- إن الهجمات في فرنسا جاءت على خلفية حدثين فرنسيين بارزين ومهمين، أولهما تصويت البرلمان الفرنسي على الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإن كان  الأمر شكلياً.. والثاني تصويت فرنسا في مجلس الأمن الدولي مؤخراً لصالح مشروع القرار الفلسطيني الداعي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وفق حدود عام ،1967 إذ إن الحدثين أثارا صهيونياً غضباً عارماً وامتعاضاً كبيراً لدرجة أن وزارة خارجية الكيان الصهيوني استدعت السفير الفرنسي في تل أبيب، وطلبت منه توضيحات حول عدم استخدام بلاده (الفيتو) ضد مشروع القرار الفلسطيني في مجلس الأمن!

2- من خلال ربط الأحداث بعضها بالبعض الآخر، يتضح الدور الصهيوني الاستفزازي في مجال الاستهداف والتخويف، فعندما أعلنت السويد أول مرة على لسان وزير خارجيتها أنها ستعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية، سرعان ما أثار هذا الإعلان ردة فعل صهيونية- أمريكية غاضبة وعنيفة من هذا الموقف السويدي، وبالتزامن مع ذلك أعلنت ستوكهولم أنها رصدت غواصة أجنبية في مياهها الإقليمية، ثم رصدت غواصة أجنبية للمرة الثانية في مياهها الإقليمية، ملوحة باستخدام القوة بعد الاعتراف الرسمي السويدي بالدولة الفلسطينية، هذا فضلاً عن الاستهداف الممنهج للمساجد في السويد!

3- إثارة نعرات العداء والكراهية بين الأوربيين والطوائف والأقليات المسلمة داخل أوربا، وتكريس حالة الحرب وتصعيدها والتشويه ضد الدين الإسلامي، الذي دأبت الأبواق الصهيونية على وصفه بـ(الإسلام المتشدد والمتطرف). والهدف من ذلك واضح، وهو أن العرب وبضمنهم الفلسطينيون والمسلمون عامة لا يستحقون أي تعاطف، لأنهم – حسب هذه الأبواق- ينزعون إلى الإرهاب والعنف والتطرف..(انظروا أيها الفرنسيون كيف يكافئكم العرب والمسلمون على تصويت برلمانكم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتصويتكم في مجلس الأمن لصالح مشروع القرار الفلسطيني لإنهاء الاحتلال.. يكافئونكم باستهداف مؤسساتكم وقتل أبنائكم).. هكذا تردد الأبواق الصهيونية.

الأمر نفسه حدث بعد هجمات 11 أيلول، فقد أدت الدعاية الصهيونية إلى إنهاء الجمعيات الخيرية الداعمة للشعب الفلسطيني ومقاومته تحت شعار (تجفيف منابع الإرهاب).

إن الدين الإسلامي رسالة مقدسة وسامية قائمة على التسامح والمحبة والرحمة وحب الخير، والدعوة للناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وخطابه موجه نحو العقل، وبالتالي ليس ثمة إسلام متشدد ومتطرف و(إسلام معتدل)، والإسلام يرفض الإرهاب، وخاصة الإرهاب الصهيوني الذي تطاول على الأنبياء والرسل، والذي يدمّر ويقتل، وتتناسل من رحمه مختلف المنظمات الإرهابية: القاعدة وداعش والنصر وأخواتها، والإرهاب الصهيوني هو الذي يعبث فساداً وقتلاً وخراباً في سورية والعراق وفلسطين ولبنان وليبيا ومصر واليمن، وإذا أرادت أمريكا وأوربا حماية شعوبها من الإرهاب فعليها التخلي عن دعم الإرهاب الصهيوني وما تفرع عنه مثل القاعدة وداعش والنصرة، وكما قيل (من يُربي الأفاعي والعقارب، عليه أن ينتظر لدغاتها).

العدد 1105 - 01/5/2024