ثورة بلا فلسفة

لابد أن تتمكن النخب السياسية السورية من جميع الأطراف والتوجهات، الرسمية وغير الرسمية، التي اجتمعت في القاهرة ثم في موسكو بداية هذا العام، في مسعاها إلى حل الأزمة الوطنية المستعصية، من التفاعل مع الواقع العالمي الجديد، بكثير من الإدراك والمسؤولية، مع تنامي سطوة العولمة وتحول الشعوب نحو الانتماء إلى نمط الحياة الغربية وثقافة الاستهلاك.

وعلى الرغم من تمجيدها لحرية الفرد ومفهوم (الأنا)، فإن الثقافة الرأسمالية تحمل بعضاً من قوانين شريعة الغاب في طبيعتها التنافسية، ونشرها لكوارث كامنة، بدءاً من تعميم الفقر، حتى بيع أعضاء البشر، واستخدام الناس فئران تجارب أو فئران (حروب)؟!

إننا في الحقيقة لانملك أي خيار، فإما التبعية أو أن نحل مشاكلنا بأنفسنا بالحوار السلمي والحكمة. يقول أرنولد توينبي: (في الصراع لأجل الوجود، دفع الغرب معاصريه (الشرقيين)، وظهرهم إلى الحائط، ثم سجنهم في شرك اقتصاده المهيمن ونفوذه السياسي، لكنه لم يجرّدهم بعدُ من سلاح ثقافتهم المتميزة. التي حافظوا عليها، ولو بالصراخ والعويل. وهذا يعني أن المعركة الأيديولوجية لم تجرِ بعد). لكن بعد احتلال العراق عام 2003 أصبحنا في خضمّ هذه المعركة. لقد أحدث احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003 انهياراً سريعاً للتوازنات الاجتماعية والسياسية الهشة أصلاً في المشرق. ولم يتوان الحلف الغربي عن استغلاله بشكل غير مسؤول من وجهة النظر الأمنية، السلام الإقليمي للمنطقة والعالمي بالنتيجة، عبر تنمية النزعة الفاشية الإسلامية و(الثورات) المسلحة.

إن عدم وجود تعددية قطبية في العالم سمح للولايات المتحدة باستباحتها المتمادية للمشرق بذرائع وتبريرات واهية. أطماع الولايات المتحدة في المشرق منذ عام 2003 غير منضبطة، تحمل صفة المغامرة وفوضى محتملة في تداعياتها، التي دفعت العالم إلى توازنات جديدة وحدود استراتيجية مقلقة فيما بينها، وهي بطريقة ما أثرت تأثيراً واضحاً على دور المؤسسات الدولية وشرعيتها، وعلى الضوابط السياسية والأخلاقية للصراع الدولي التي كانت حاكمة خلال الحرب الباردة. هكذا، وعلى نحو مفاجئ، تظهر (الدولة الإسلامية في العراق والشام) – داعش) تنظيماً إرهابياً يلغي الحدود السياسية، ويعيد تشكيل ديموغرافية المنطقة بحِرفية وأداء عسكري عال وغير متوقع، لكن الأكثر خطورة هو نشره بالثورة المسلحة ليس للإسلام أو تطبيق الشريعة، بل لأيديولوجيا جديدة، تختلف عن الأيديولوجيات الإنسانية السابقة التي ضمت تحت راياتها آلاف الناس من المهمشين اقتصادياً واجتماعياً من ضحايا الجهل والقمع، تختلف بأنها أيديولوجيا عنف نشأت عن ثورة بلا فلسفة حققت ماهو أعمق من الهياج الجماهيري. لقد خلقت انزياحات في الوعي الوطني نحو الأصولية والفاشية الإسلامية، تبنتها شرائح اجتماعية واسعة من المجتمع السوري من حيث الانتشار الجغرافي والتنوع الطبقي.

العدد 1105 - 01/5/2024