مفهوم الوطن مؤسساً للوطنية والمواطنة

 من المشاعر الإنسانية الثابتة والأصيلة لدى كل شعوب الأرض، شعور الإنسان الأزلي بانتمائه وولائه للرقعة الجغرافية التي عاش وترعرع فيها ضمن مجتمع له منتوجه الثقافي والقيمي وتراثه الشعبي.. ليكون  مفهوم المواطن معبراً عن مدى ارتباط الإنسان  بالوطن، فليس هناك وطن بلا مواطنين.

  يؤكد علماء اللغة والمفكرون أن الفعل (وَطَنَ) يعني أقام بالمكان، وأوطن به، أي اتخذه وطناً ومحلاً يسكن فيه، ومثله استوطن، لتكون تسمية المواطن مشتقة من كلمة وطن ومفاعيله من الفعل (واطَنَ) الذي يعني وافق واتفق، فقولنا: واطنتُ فلاناً على هذا الأمر، يعني اتفقت معه عليه. وتأسيساً لهذه العلاقة الأزلية اللصيقة والمتوازنة بين المرء والمكان الذي يعيش فيه، فإنه يترتب على المواطن أيضاً أياً كان جنسه أو منصبه أو اتجاهه السّياسي والدّيني والعرقي، مسؤوليات قانونية وأخلاقية تاريخية في المحافظة على كيان وطنه واستقلاليته والالتزام بقوانينه والدّفاع عنه وعن حقوقه ومصالحه والمحافظة على مصالح شعبه، مستمداً قوته من الموروث الحضاري والتّاريخ المشترك وروح (الوطنية والمواطنة) التي يؤمن بها ويعمل من أجلها، والتي تؤكد ولاءه وحبه لهذه الأرض وانتماءه لها ولأبنائها، بحيث لا تكون هناك مصلحة عليا تتعارض ومصلحة الوطن.

مفهوم (المواطنة) المعاصر ومسارات تطبيقها ومتطلباتها التربوية يمكن أن نجملها في عدة أمور هامة، منها:

 المساواة بين المواطنين على أساس الانتماء لهذه الوطنية، في كل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، إضافة إلى التزام المواطن بواجباته تجاه الدّولة الوطنية التي ينتمي إليها، وبذلك الولاء من المواطن للوطن ولكل رموزه نشيداً وعلماً ولغة وأعرافاً، إلى درجة التّضحية في سبيله.

 إن حتمية التّعرف على مفهومي (الوطنية والمواطنة) بأصولها ومدلولاتها الحقيقية مستنبطان  من مفهومي الوطن والمواطن، إذ بقدر ما هناك حقوق للمواطن على الوطن، هناك حقوق للوطن على المواطن، تتبلور منها العلاقات الإنسانية والتّعايش السّلمي في المجتمع الجمعي، وتنمو وتترعرع الوطنية والمواطنة في الضّمير والوجدان.

إن مفهوم الوطنية  والمواطنة موضوعان من أكثر المواضيع التي تتخذ حيزاً من الحوار بين كل الفئات المجتمعية الرّسمية منها والشّعبية في العصر الحديث، مما يمكننا الاستنباط بأنهما مازالا محل تساؤل وبحث ودراسة، ولكن من المسلمات المتفق عليها أن مفهوم الوطنية يتصل  بشعور المواطن تجاه الوطن، ليكون هذا المفهوم معياره السّلوك تجاه الوطن كممارسة فاعلة يومية، فالوطنية شعور محبة، مؤداه الوفاء لهذه المحبة لا نكران وانتهازية، وهو أداء يحدث في المناسبات العامة لوطن ما، فهذا الشّعور مكون أصيل لا تعدد فيه ولا تبدل، وهذا الارتباط الشّعوري مكون للارتباط العاطفي بالأرض والمجتمع، بينما المواطنة تتجلى فعلياً بارتباط عملي من كونه فعلاً ظاهرياً يحدد موقع كل شخص في البلد الذي يعيش فيه وينتمي إليه في الوقت ذاته..

بصريح القول إن الرّابطة الوطنية تحل محل الرّابطة الدّينية، فالأصل في الإنسان أن يحب وطنه، ويتشبث بالعيش فيه، ولا يفارقه رغبة منه،  فحبّ الوطن غريزة متأصلة في النّفوس تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقصت سيادته. ومهما اضطر الإنسان إلى ترك وطنه فإن حنين الرجوع إليه يبقى معلقاً في ذاكرته لا يفارقه، ولذا يقول الأصمعي: (( قالت الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات، الإبل تحن إلى أوطانها، وإن كان عهدها بها بعيداً، والطير إلى وكره، وإن كان موضعه مجدباً، والإنسان إلى وطنه، وإن كان غيره أكثر نفعاً..).

وفي الفكر المعاصر يرتبط مفهوم المواطنة بالوطنية، التي لاتعني فقط النّزعة الشّعورية لدى المواطن، وإنما النزعة الفكرية التي لها مبادئها العامة وطقوسها السّلوكية، وتعني في مفهومها العام (أن الولاء للوطن مقدم على أي ولاء سواه، والولاء للوطن يعني الولاء لبقعته الجغرافية ولجماعته من النّاس ولدولته ولشاراته المميزة، كما  نجد أن بعض الباحثين يعزون إرساء مبادئ الوطنية في الدّولة القومية الديمقراطية المعاصرة في أوربا إلى حدوث ثلاثة تحولات كبرى متكاملة وهي: بروز الدّولة القومية، والمشاركة في العمل السّياسي، والإشراف على حركته، وسن القوانين والتشريعات التي تنظم العلاقات السّياسية والاقتصادية والثّقافية والاجتماعية، بما يلبي حاجات تلك المجتمعات وطموحاتها، بعد أن أوكلت مهمة إصدار هذه القوانين إلى الشّعب الذي أصبح مصدراً للسلطات التّشريعية والتّنفيذية والقضائية، إذ تتجسد في ذلك قمة (المواطنة.         

 ألم يئن لأوطاننا العربية أن تهتدي بهذا النّهج، وتختصر الزمن في تكرار تجارب مجربة، ليكون لنا نهج الاقتداء عملياً بما أنجزته أوربا وتمثلت بهذا النهج بلدان عديدة في العالم، وكان في ذلك نتائج هامة بما انعكس عيشاً أفضل للمواطنين في أوطانهم يليق بالشّعور الإنساني الرفيع نحو التّرقي بالقيم الوجودية بديلاً للمعتقدات الضّيقة التي تؤطر العيش بأطر تحدّ الإبداع والرّفاه.. ويبقى التفاؤل رفاهية فكرية ليكون المطلوب السّعي إلى نهضةٍ بالوعي الذاتي لوجودنا في المكان والزمان..   

العدد 1107 - 22/5/2024