التوغل في متاهة الفراغ

تتوالد الأزمات المصيرية في حياة الأفراد والجماعات لتكشف الفجوات الخطيرة في مفاهيم الالتزام الأخلاقي تجاه الآخر والمتضمن معنى المسؤولية والاحترام، فتتدافع التساؤلات عن الهوة الواسعة، التي ينتصب فيها العنف بتدرجاته بديلاً عن الحب، تلك الخاصية الآخذة في التآكل تحت ضغط الإعلام المعاصر، الذي يعمم النزعة الاستهلاكية بوصفها امتداداً للحلم الأمريكي الشهير.. ومع أن بناء الشبكة الاجتماعية الافتراضية خفف من أعباء العزلة والوحدة، حين سهل التعارف وألغى الفروقات خلف أستار مملكة الوهم. لكنه كثف في الوقت نفسه استغلال الحس الإنساني وانتهاكه بذريعة تسويق النشوة الجنسية كمعادل مكافئ للجوع العاطفي. مما يعني أن قطع الاتصال مع شبكة الوهم العنكبوتية، قد يحول الحياة الواقعية إلى متاهة للبحث عن الوجه الحقيقي للإنسان، وهي الفكرة التي يدور حولها الفيلم الأمريكيDisconnect) ) ولكن هل يمكن قطع الاتصال فعلاً مع واقع افتراضي أمسى إدماناً؟

يدخلنا المخرج (Henry Alex Rubin) مباشرة في قلب الاستحواذ الجنسي المسيطر على ذهنية العالم المعاصر، فيستعرض من خلال قصة شاب يدعى كايل في الثامنة عشرة أشكال الاستغلال الجنسي للطفولة المتبقية عند المراهقين.. بينما يظهر التوزيع البياني على صفحات النت الفئات العمرية لليافعين كعرض تسويقي لتسليع الإنسان.. أما مدار هذا القتل للحس الإنساني المحول إلى مساقط الشهوات الدنسة، فيحدث في غرف الدردشة الخاصة مقابل مبالغ مالية تتناسب مع متطلبات المخيلة المنحرفة للمتطفل. وهذا التفريغ لأحلام اليقظة عبر الأثير يعطى تعريفاً مختلفاً للزنى الأخلاقي..  

تدور الحبكة حول مراهقين في الخامسة عشرة من العمر يتزلجان على وقع الأغاني الصاخبة، بينما يصغي زميلهما بانتباه إلى موسيقا كلاسيكية.. وعلى سبيل اللهو يلوث المراهقان  زجاجة المياه بالبول ليسخرا من رياضي يشرب منها ويتقيأ، ثم يتابعان العبث مع زميلهم الذي أدرك اللعبة الخبيثة، فينشئ الذكي بينهما حسابا وهمياً باسم فتاة ويرسل طلباً للصداقة إلى الفتى، تحت مسمى التشارك في الشغف الموسيقي، وباستخدام أسلوب التعاطف يستدرجه للوقوع في الفخ عبر الدردشة وإرسال صور إباحية إلى جهاز الموبايل، وحين يستجيب لما ظنه مبادرة حب ويصور نفسه في وضع خلاعي، يرسل الشقيان الصورة إلى جميع أجهزة الطلاب الموجودين في المدرسة، عندئذ يقدم الموسيقي اليافع على الانتحار شنقاً، ليغدو انتهاك البراءة تأكيداً لنشوة الجنس المشوهة. 

يقدم الفيلم نماذج عديدة للبديل الافتراضي لمشاعر التعاطف الحقيقية، بين الزوج وزوجته، بين الأب وابنه، بين المرأة المستقلة الواثقة والابن (الدمية الجنسية).. فالأب الحاضر الغائب في حالة الموسيقي يقود ابنه نحو فقدان الثقة بموهبته، والمحقق يحاصر ابنه بعقلية متسلطة فيدفعه نحو إيقاع الأذى بزميله الموسيقي. وبالنتيجة يتصارع الرجلان وكل يسقط تراخيه في أداء واجباته الأسرية على عاتق الآخر! بينما الجندي السابق في الجيش الأمريكي يغرق انفصاله عن الواقع بألعاب القمار الإكترونية تاركاً زوجته غارقة في غرف الدردشة بحثاً عن الحنان المفتقد، وتكون النتيجة سرقة المدخرات المصرفية عبر استخدام المعلومات الشخصية وتفاصيل الحياة الصغيرة المنشورة على صفحة الفيس بوك.. والتي تعني بشكل أساسي نفي الخصوصية، أو التعري تحت الأنظار الغريبة..

لا يمثل ابتكار الشبكة الاجتماعية الافتراضية خللاً في منظومة التفكير بقدر ما يفضح غربة المشاعر الإنسانية، واتساع عمق الخواء الروحي، بفعل طغيان النزعة المادية الاستهلاكية التي شيأت الإنسان، رغم أن جذور الخلل في بنية المجتمعات تعود إلى نشأتها الأولى، إلا أن غريزة الدفاع تطورت عند البعض لتعزز بناء الأسرة، وبقيت عند الآخرين مقايضة نفعية لا تستثني أخاً أو ابناً أو أباً من هنا يبدو الطرح نقيضاً لفكرة الفيلم الشهير Iam Sam))، حين يعطي الأب المعاق عقلياً مثالاً رائعاً على بهجة الإحساس بالمسؤولية تجاه الأبناء..

العدد 1105 - 01/5/2024