العلاقات الافتراضية مازالت محل جدل؟

 أصبح سلوك الإنسان المعاصر محدداً بين عالمين: (الواقعي والافتراضي) يتجاذبان حيناً، ويتنافران أحياناً بنسب تختلف ارتفاعاً وانخفاضاً تبعاً لنضج الأشخاص ووعيهم الاجتماعي الذين هم محور العلاقة الإنسانية..

إن جدليّة العالمين الواقعي والافتراضي تكاد أو بالأحرى أصبحت اليوم أمراً حتميّاً، لا يمكن أن ينعزل عنه الإنسان المعاصر بغضّ النظر عن فئته العمريّة، لأنّه صار من صميم حياتنا الإنسانيّة، ومن رفض أن ينتمي إلى هذا العالم الذي يسمّى افتراضيّاً، يكون قد فرض على نفسه انعزالاً ثقافياً، فالعالم يعيش في وهم الافتراض من دون أن يستطيع الفصل بين الحقيقة والوهم.

ولما كان الواقع والوهم من القماشة نفسها تبعاً لمنظور (سيغموند فرويد) مؤسس التحليل النفسي، فالأساس في العلاقة  كيفما تم التعبير عنها هو الإنسان، فالحبّ أو الصداقة الفيسبوكية مثلاً يمكن اعتبارها حقيقية، لكونها تبدأ بالأساليب نفسها التي يبدأها المرء في الواقع وعبر محتوى التواصل نفسه، إذ يبدأ التواصل بالكلام الرقيق الجميل، وتتقارب الأفكار عبر المجاملات وإصغاء كل طرف للآخر، وكلما اشتد التعامل والتبادل في الاهتمام، أصبحت العزيمة قوية لإنهاء العلاقة الافتراضية بلقاء فعلي، مهما اضطربت الظروف لإنجاز هذا اللقاء..

 من الثابت في علم السّلوك الإنساني أن شخصية الإنسان تظهر من خلال نظرات عينيه وإيماءات وجهه وجسده ونبرات صوته المتناغمة مع مخارج كلماته وأفكاره وأسلوب لبسه وكلامه…

والإنترنت كما التليفون العادي وسيلة اتصال، وليست وسيلة تواصل لتفعيل العلاقات وإيصال بعض الأهداف، فمن المحال أن تعاش علاقة كاملة مكتفية الأغراض عبر النت.

 قد يكون النت وسيلة للتعلم واكتساب المهارات والمعارف المتعينة لنا على عيش الواقع بآليات أكثر راحة وثقة، لكن العلاقات العاطفية في العالم الافتراضي ما هي إلاّ مجرد وهم استجرار للعواطف، ولعب بالمشاعر، لأن الشّخص ممكن أن يتقمص أي قناع يريده، وبسهولة، خصوصاً لدى الناس الذين يحاولون الهرب من واقع لا يعجبهم أو بغرض التّسلية..

إن التواصل الحقيقي ما هو إلاّ حواس متداخلة فيما بينها من نظرات وأصوات وحروف تنطق ولا تكتب، وحركات وإيماءات وجه وجسد، كلها تجتمع لتحقق شيئاً واحداً هو الفعل التواصلي، وبذلك يظل الإنترنت أكثر الاختراعات الإنسانية إبهاراً وخطورة وإفادة، ولكن تظل العلاقات الإنسانية أسمى و أرقى من أن تتحقق عبر الأثير..

ما أجد أنه من الهام التركيز عليه، ألا نغفل أن التّكنولوجيا مثل أي وسيلة أخرى لها إيجابياتها وسلبياتها، بالنسبة للجانب السّلبي فإن العلاقات المباشرة التي تميز التّواصل الاجتماعي الطّبيعي التّقليدي، تعزز انتماء الفرد وارتباطه بالجماعات الأولية كالأسرة والجيران إلخ، فضلاً عن أن اختفاء هذه العلاقات قد يؤثر على نسيج العلاقات الاجتماعية، ويقلل من درجة التّلاحم الاجتماعي والحميمة بين أفراد الأسرة، لذا من الضّروري أن يكون هناك وعي اجتماعي، يتأسس ويتطور في البيت والمؤسسات التّعليمية، ووسائل الإعلام المختلفة، حتى لا يصل الفرد إلى حالة من العزلة مع عالم آخر غير الذي يعيش فيه فيزيقياً على أرض الواقع، ليجد نفسه منخرطاً في تواصل لحظي متجدد، يوفر له إمكانية التّفاعل المباشر مع الآخر،

فشبكة العلاقات الافتراضية وسعت من دائرة المعارف بين الناس، وجعلتهم في حالة من التّواصل المباشر مع أفراد قد يكونون معروفين لهم، ومع آخرين ربما لن تتاح لهم فرصة اللقاء بهم أبداً بصورة واقعية وجهاً لوجه، إن هذا العالم الواسع، له أثر إيجابي في تحفيز الذهنية وفي سهولة التّواصل بين الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات فعلية يوماً ما، كما أن التّواصل الافتراضي مع أشخاص لهم خبراتهم المختلفة علمياً وإنسانياً، يزيل الكثير من الحواجز، ويتغلب على الكثير من الانحيازات الثّقافية، فهو وسيلة ناجعة للتّعرف على الآخر المختلف عنا في ثقافته، وهنا تتكسر رويداً رويداً الحواجز الثّقافية بين الأفراد في المجتمع الواحد، وعبر العديد من المجتمعات، وله انعكاساته المرجوة على المدى البعيد، في التّقريب بين وجهات النّظر، وفهم الآخر، ومن ثم التّقليل من حدّة التّوتر والصّراع الحضاري. 

العدد 1105 - 01/5/2024