ثـورة أكتوبر… وثقافة أنصاف الحقائق

 دشنت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عصراً جديداً في تاريخ النضال من أجل العدالة الاجتماعية والسلم العالمي والنضال الوطني من أجل الاستقلال وسيادة الدول وخلاصها من أشكال الاستعمار كافة.

ثورة أكتوبر أول ثورة اشتراكية ظافرة في العالم، حققت بعض طموحات العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين في نظام اقتصادي اجتماعي يصون حقوقهم، ويقلب نظام توزيع الخيرات المادية ويعيده إلى أصحاب المصلحة الحقيقية في إنتاجها.. إنها حركة تغيير اجتماعي ثقافي فكري اقتصادي قادها الحزب الديمقراطي الثوري الروسي بزعامة القائد الثوري لينين، الذي ساهم بإغناء النظرية الماركسية في الثورة، وطورها وفق الظروف التاريخية الملموسة لوضع روسيا القيصرية التي نقلتها ثورة أكتوبر من النظام الإقطاعي المتخلف إلى مصافّ الدول الصناعية المتطورة، إضافة إلى الانعطافة في مجال الفكر النظري والنتاج الثقافي والأعمال الإبداعية وفي كل الحقول المعرفية الأخرى.

الوقوف أمام التجارب الكبرى لا يقتصر على المظاهر الاحتفالية والتذكير بالإيحاء واستعراض البطولات والانتصارات على ما لها من أهمية وقيمة في تحفيز للهمم والابتعاد عن اليأس من تجربة الإخفاق. الاحتفالية، مسؤولية تاريخية تقوم على دراسة تاريخية موضوعية محايدة ومنصفة، لا سيما أن التجربة قد حوكمت بصرامة وشدة من قبل أعدائها وخصومها وحتى من قبل الذين كانوا من أكثر المستفيدين منها.. الدراسة الموضوعية تستدعي النظر إلى التجربة كظاهرة تاريخية، والحكم عليها برؤية اليوم وما توفر فيه من سبل المعارف والإمكانيات ليس كافياً، ويتطلب العودة إلى الوقائع والأحداث الداخلية والخارجية التي حكمت ظروف الثورة وما رافقها من ملابسات.

الأحكام على أحداث الماضي، تنطلق من وقائع الماضي نفسه وليس من حيثيات الحاضر ومعطياته، بذلك نوفر لأحكامنا شيئاً من المنهجية في الرؤية، وبعضاً من الموضوعية والحياد.

حدث كبير بحجم ثورة أكتوبر وعمقها وشمولها، لا يحاكَم على أساس ثقافة أنصاف الحقائق.. لا نرى فيها اليوم إلا النواقص والسلبيات، إذ يذهب بعض الدارسين إلى أن الثورة لم تكن في وقتها، وقد قامت وفق فعل إرادوي، لم يأخذ الظروف الموضوعية بالحسبان، إذا كان ذلك صحيحاً فكيف نفسر نجاح الثورة واستمرارها أكثر من سبعين عاماً، بكل ما حملته الأعوام السبعون من متغيرات ومنعطفات وآلام، وتقدم وتراجع، في مسار الثورة التي غيرت موازين القوى في العالم، واستطاعت أن تصمد أمام (الحلف المقدس) المؤلف من مجموعة دول كبرى لإجهاضها، ثم انتصارها في الحرب الوطنية العظمى وهزيمتها للنازية والفاشية.

اليوم لو نظرنا إلى عالمنا بعد تسعينيات القرن الماضي، فهل يمكن تصوره من دون تأثيرات ثورة أكتوبر دولياً وإقليمياً ومحلياً؟ وكيف لنا ونحن في غمرة النقد وإعادة النظر في مقولات الثورة وممارسة قياداتها أن ننسى (نحن العرب) موقف الثورة من معاهدة سايكس بيكو، ومن العدوان الثلاثي على مصر، وموقف الاتحاد السوفييتي من حربي حزيران وتشرين، وتقديم كل أشكال المساعدة والدعم للدول الطامحة إلى الحرية والمواجهة للصهاينة وحلفائهم الإمبرياليين والكوادر العالمية؟ وهل يمكن إغفال إعداد وتأهيل آلاف المهندسين والأطباء والمبدعين الذين درسوا ونهلوا من ينابيع بلاد أكتوبر؟

هل تساءل المغرضون في هجومهم على التجربة الوليدة التي لم يكتب لها الاستمرار لعوامل داخلية وخارجية، لو أن الاتحاد السوفييتي وهو أحد ثمار ثورة أكتوبر، بقي على قيد الحياة قوياً معافى، كيف يمكن أن تكون عليه خريطة العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الفكرية والنظرية المعرفية..؟ وكي لا نذهب بعيداً في استعراض النتائج الإيجابية، ونسارع إلى قطف الثمار، علينا أن نرى أيضاً السلبيات التي رافقت التجربة على جميع المستويات، من المنافسة بين النظامين العالميين وأشكالها وطرقها ونتائجها، إلى سباق التسلح وغزو الفضاء، علينا أن ندرس بعمق التجربة من الداخل بكل ما حملت من نواقص كعدم إشاعة الحريات العامة، والحقوق السياسية كتشكيل الأحزاب وحرية الرأي والتعبير والأخذ بمبدأ التعددية الاقتصادية في بلاد شاسعة ضمّت شعوباً وقوميات وثقافات وتجارب مختلفة؟

إذا كانت الثورة الفرنسية قد حققت الديمقراطية السياسية وحجبت الديمقراطية الاجتماعية، فقد افتقدت الثورة الروسية إلى الديمقراطية بمعناها الواسع والشمولي المبني على أساس من التطور الاجتماعي والوعي المعرفي لعلاقات البنى الاجتماعية بالأقبية الفوقية الناتجة عنها.

العالم اليوم يبحث عن طريق جديد، يجمع بين الثورتين العالميتين، إضافة إلى تجارب الشعوب التي مازالت تناضل من أجل عالم أفضل، يحقق إنسانية الإنسان، وينتفي فيه أي تمييز بين البشر، عالم يحقق العدالة الاجتماعية بين الدول، ويضمن التطور المتكافئ لها ويردم الهوة بينها، ويصون الحريات الديمقراطية ويساوي بين المواطنين، إنه عالم الغد، الذي أراده رواد ثورة أكتوبر، فأخفقوا في تحقيق كامل تصوراتهم عنه، ونحن اليوم أنصار ثورة أكتوبر ومحبيها، علينا أن نجدد معانيها الكبيرة وقيمها الإنسانية، ونرص الصفوف من أجل استمرار وتأصيل المفاهيم والقيم التي بشرت بها.. فأطول الطرق تبدأ بخطوة، وقد قطعت ثورة أكتوبر خطوات على الطريق.

على أبناء اليوم وهم يواجهون أعتى أشكال الهيمنة والتسلط والإرهاب والإقصاء وحروب الردة، أن يعملوا معاً من أجل بناء عالم جديد، عالم الحق والخير والجمال.

العدد 1105 - 01/5/2024