سعيد عقل والكلاسيكيّة الجديدة

في صبيحة يوم الجمعة 21 تشرين الأوّل 2014 ، رحلَ الشّاعر اللّبنانيّ والعربيّ الكبير سعيد عقل رحلةَ اللاعودة. رحلَ أحدُ أبرز الأعمدةِ الشِّعريّة والأدبيّة في لبنان، مُودِّعاً تُراثاً ثرّاً من الفنِّ والأدب والذّكريات.

وُلِدَ سعيد عقل في الرّابع من تمّوز عام 1912 في بلدة زحلة جارة البردوني الجميل، آخذاً عن أمّه عمقَ الطّهارة والالتزام، وعن أبيه روحَ العطاءِ والبذل الاجتماعيّ ، فكان مثالاً للرّجولة والبطولة الأخلاقيّة. وهبَهُ اللّه نبوغاً وذكاءً مُتميِّزاً، فبرزَ مُتفوِّقاً ولمّاعاً في مدرسة الإخوةِ المريميّين في زحلة حيثُ تابعَ الدّراسةَ حتّى أتمَّ قسماً من المرحلة الثّانويّة. كان يُخطِّطُ لدراسة الهندسة ، إلاّ أنّ القدَرَ كان أقسى، فعند بلوغه الخامسةَ عشرةَ من العمرِ ابتُليَ والده بخسارةٍ فادحةٍ في أعماله التّجاريّة، فاضطُرَّ الفتى سعيد أن يُغادرَ المدرسةَ لِيتحمَّلَ أعباءَ حياةٍ عائليّة ومسؤوليّة بيتٍ عريق.

مارسَ أعمالَ الصِّحافة والتّعليم في زحلة. ثمّ انتقلَ واستقرَّ في بيروت حيثُ المجالُ أرحبُ والحياةُ معطاءَةٌ بشكلٍ أوسع ، فراحَ في مطلِع الثّلاثينيّات يكتبُ بقلمٍ جريءٍ وصريح في صُحف بيروت الذّائعة الصّيت آنَذاك: البيْرق – المعرِض – الجريدة – لسان الحال، وكذلك في مجلّة الصّيّاد المشهورة . إضافة إلى نشاطهِ الصّحافيّ ، درّسَ سعيد عقل في مدرسة الآداب وفي دار المعلّمين وفي الجامعة اللّبنانيّة ، كما درّسَ مادّةَ تاريخ الفكر في جامعة الرّوح القُدس ، وألقى دروساً ومحاضراتٍ لاهوتيّةً في معهد الّلاهوت في منطقة الأشرفيّة. مارسَ عملَه في التّدريس كما في الصّحافةِ بإتقانٍ بارعٍ ودقّةٍ مُتناهية. وكان خلالَ نشاطه الصِّحافيّ والتّدريسيّ يجهَدُ في تعميق ثقافتِه بنهَمٍ مشهود. فقد أقبلَ على دراسة روائع التّراث العالميّ شعراً ونثراً وفلسفة وعلم اجتماع وفنًاً ولاهوتاً، فغدا بذلك أحدَ كبار المُثقّفين في عصره، وبحراً في المعرفة والّلاهوت المسيحيِّ حتّى عُدَّ مرجِعاً فيه، كما دَرَسَ تاريخَ الإسلام والفقهَ الإسلاميَّ بتوسُّعٍ مشهودً له. لقد كان طامحَ الرُّؤى، يعملُ على تطوير ذاتِه ثقافيّاً ومعرِفيّاً إلى حدودٍ لا تعرفُ التّوقُّفَ، فانتدبَ نفسَه شأنَ الكبار والعظماء لِتخليد مهامَّ ثقافيّة، فأنشأَ في عام 1962 جائزةً شعريّة من ماله الخاصِّ تُمنحُ لأفضلِ شاعرٍ لبنانيّ.

برزَ سعيد عقل منذُ ثلاثينيّات القرن المُنصرِم كشاعرٍ عربيٍّ لا يُشَقُّ له غبار. لقد التزم في أكثر نتاجه القصيدةَ العموديّةَ وعملَ على تطويرها، حتّى وصلَ بها إلى مرتبةٍ عالية الشّأنِ، تُحلِّقُ في سماءِ الموسيقى والكلمةِ الجادَّةِ الرّصينةِ والجميلة والصّورة الأنيقة الّتي تسيرُ على ضِفافِ الرّمزِ الشّفّافِ حيناً، وعلى مُروجِ الواقعيّة والبساطة والوضوحِ أحياناً أُخرى، وبذلكَ أَخرجَ القصيدة العموديّة من قمقم السّطحيّةِ والانفلاشِ الّذي لازَمَها أحياناً كثيرةً. ذلكَ أنّ سعيد عقل كان يؤمنُ بسلطان العقل والجمال والأناقة اللّفظيّةِ. لقد برزَتْ تلك السِّماتُ الأَصيلةُ في مُجمل شآميّاته التي جلجلَتْ بها آفاقُ الغناءِ والتّلحين الموسيقيِّ. تجلّى ذلك في قصائده الخالدة: سائليني يا شآم – قرأْتُ مجدَكِ – يا شامُ عادَ الصّيفُ – شامُ يا ذا السّيف لم يغِبِ – نسَمَتْ من صوبِ سوريّة الجنوب – مُرَّ بي يا واعداً وعدا … هذه القصائدُ الخالدةُ بمعانيها ومفرداتِها وقوافيها وموسيقاها والتي لا يجهلُها قارئٌ عربيّ أبداً، تدفعُنا للقول بِاَنَّ شعر سعيد عقل كان كالنّبيذ المعتَّق في الخوابي والمسكوبِ كعطرِ الياسمين. لِنستمع معاً:

شآمُ، لفظُ الشّآمِ اهتزَّ في خَلَدي

كما اهتِزازُ غُصونِ الأرزِ في الهُدُبِ

أَنزَلْتُ حُبَّكِ في آهي فشدَّدَها

طربْتُ آهاً، فكنْتِ المجدَ في طرَبي

وفي مكانٍ آخر من قصيدة (يا شامُ عاد الصّيف) نقرَأُ:

فأنا هنا جرحُ الهوى

وهناكَ في وطني جراحُ

وعليْكِ عيْني يا دمشقُ

فمنْكِ ينهمرُ الصّباحُ

ويضيقُ المجالُ عن حصرِ مآتي الجمال، فذلك يقتضي دراسةً موسّعةً بل كتاباً. استهلَّ سعيد عقل حياتَه الأدبيّةَ بمسرحيةً شعريّةٍ كلاسيكيّة، إنّها التّراجيديا الشّعريّة (بنت يفتاح). وقد نالَت جائزةَ الجامعة اللّبنانيّة آنذاك. وتتالَتْ سلسلةُ الإبداع والعطاء الشِّعريِّ والفنّيِّ، فأصدرَ مطوَّلتَه التّاريخيّة الوطنيّة (فخر الدّين) حيثُ استطاعَ أن يُبرهنَ من خلالِها أنّ الشّعرَ يبقى فنّاً مُضيئاً ومُبدَعاً وهو يسردُ وقائعَ التّاريخ.

في عام 1937 أصدرَ مأثرتَه الرّائعة (المجدليّة) الّتي غيَّرَت ملامحَ وجه الشِّعر في المشرق العربيّ. لقد أثبتَ عقل من خلال رائعتِه (المجدليّة) أنّ الشِّعرَ ما هو إلاّ جمالٌ ضوئيّ مُكثّفٌ عبر سكرةِ الموسيقى الّتي يتّحِدُ بها الشّاعرُ لِيُعطي للكلمة رونقَها وللعبارة معناها، وقد عبّرَ سعيد عقل عن رؤْيَتِه تلك بقولِه:

الشعرُ قبضٌ على الدُّنيا مُشعشِعَة

كما وراءَ قميصٍ شعْشَعَتْ نُجُمُ

فأنتَ والكونُ تيّاهان، كأْسُ طِلى

دُقَّتْ بكأسٍ، وحلمٌ لمَّهُ حُلُمُ

في عام 1944 فاجأَ البانوراما الأدبيّة العربيّةَ بمسرحيّة (قدموس). إذ قدّم من خلالِها صرحاً شعريّاً ذا مُقدِّمةٍ نثريّةٍ رائعة ومتميّزة. إنّ (قدموس) لونٌ جديدٌ من الملاحم الشّعريّة الّتي تهزُّ ضميرَ الأمّة الرّاكدِ، وتحرّك صفحةَ ووجدانَ اللّوحة الأدبيّة الجامدةِ على أشكالِ نمطيّة اعتراها البلى والتّحنيط.

ويتتالى الإبداع ، ويصيرُ الحبُّ عند سعيد عقل أحلى وأجملَ وأرقَّ: (رندلى) الّتي غنّى من خلالِها الوطنَ، وتغنّى فيها بالمرأةِ بنُبْلٍ وعذوبةٍ واحترام، فأَعادَ للقصيدة الغزليّة رونقَها وبهاءَها وأخرجَها من إِطارِ البهرجةِ والإباحيّة. تقرَأُ أبياتها فينتابُكَ إحساسٌ أنّكَ تُصلّي في معبدٍ وتستمعُ تراتيل وحيٍّ ووجدٍ إلهيٍّ:

مالي سأَلْتُ الزَّهرَ عن منزِلي

فقيلَ لي هناكَ خلفَ الزّهور

ولم يتوقّف الإبداعُ المحترِفُ مع (كأس الخمر) و(لبنانُ إِنْ حكى) وهو كتابٌ نثريٌّ يُضيءُ فيه أمجادَ بلاد الشّام بأُسلوبٍ قصّصيٍّ أَخّاذٍ، يتأَرجحُ فيه بين التّاريخ الواقعيِّ والأُسطورة. ويعودُ الشّاعرُ إلى سُبْحةِ الغزلِ في كتاب (أَجملُ منكِ؟ لا)، إذ يرسمُ لوحاتٍ من الغزل الرّشيق مع تنوُّعِ القوافي في أسلوبٍ مُموسَقٍ يشبهُ السّيمفونيّات الخالدة. وبعد ذلك (يارا) و(أجراسُ الياسمين) و(قصائدُ من دفترِها) و(دُلْزى) و(خُماسيّات). وقد أنهى المُبدِعُ الكبيرُ أعمالَه بكتاب (الذَّهبُ قصائد) وهو ديوان شعرٍ باللّغة الفرنسيّة الّتي يُجيدُها إجادةَ المُبدعين الكبار من أمثال مالارميه وبول فاليري، وفي هذا الدّيوان يُقدّمُ سعيد عقل خلاصةَ ما توصَّلَ إليه عقلُه ونضجُه الفكريُّ والأدبيُّ.

إنْ كان لكلّ حصانٍ كبوةٌ، فإنّ الشّاعر الكبير ظهرَتْ عليْه آثارُ تلكَ الكبوة، عندَما بدأَ ينظمُ ويكتُبُ باللّهجة العاميّة اللّبنانيّة من منطلَقِ دعوتِه إلى اللّبْنَنَة والعودةِ إلى الأصول الفينيقيّة. لَئِن كان ذلك في نظري كبوةً من كبوات الفارس الكبير، فإنّه لا يهزُّ من شاعريّته وعمق ثقافته ولا يُغيِّرُ من انتمائه العربيِّ والشَّآميّ الأصيل.

في 21 / 11 /2014 ، هوَتْ تلكَ الأرزةُ الشّامخة بعدَ أَنْ ملأَتِ الدُّنيا وشغَلتِ النّاسَ بِإِثراءِ الأدب العربيِّ شعراً ومسرحاً، وبِإِسْهاماتٍ صِحافيّةٍ على مدى أكثر من سبعين عاماً. لقدْ حرَّكَ بنتاجِه في المجتمع العربيّ مواقفَ سياسيّةً وفكريّة واجتماعيّة أثارتْ جدَلاً فكريّاً موضوعيّاً على مرِّ السّنين. إنّهُ القائلُ مُعتزّاً بنفسِه: (الشُّعراءُ الكبارُ همُ الّذين يجعلونَ كلَّ أنواعِ الشِّعرِ تُصفِّقُ لهم).

لقد صفَّقْنا له طويلاً ونحنُ نرى الشّآمَ تتأَرجحُ بأَمجادِها بين قوافيه..

رحمَكَ اللّه يا سعيد عقل!

 

العدد 1104 - 24/4/2024