«بانتظار الخريف».. جرعة أمل من رحم المعاناة

 مع كل زيارة لي للسينما يحضرني قول للمخرج السينمائي الإيطالي فيدريكو فيلليني: (الذهاب إلى السينما هو أشبه بالعودة إلى الرحم، فأنت تجلس هناك ساكناً متأملاً في الظلام تنتظر الحياة لتظهر على الشاشة).

وفي ذلك اليوم انتظرت مع المئات (بانتظار الخريف)…حوالي ساعتين من العرض مرّتا سريعاً، أُضيئت بعدئذ الأضواء وشاهدت أمامي عيوناً ملأى بالدموع مع حزن ممزوج بنفحات الأمل الذي صنعته آخر لقطات الفيلم.

ساعتان استطاع بهما هذا الفيلم إلقاء الضوء على مرحلة هامة من مراحل الأزمة السورية، فاختصر بذلك مئات الساعات من التحليل السياسي لبعض المحللين وبعض المسلسلات الدرامية، فكان بذلك أصدق وأبلغ. لقد سلط الفيلم الضوء على أوجاع الطبقة التي تدفع ثمن الحرب، ومعاناتها، فالفقراء والبسطاء على اختلاف انتماءاتهم يدفعون الفاتورة الأكبر.

وحمل الفيلم في طياته مشاعر كثيرة يصعب وصفها ببعض الكلمات، فتحدّي الحرب والدمار والموت والإصرار على متابعة الحياة وصنع الفرح والحب من أبسط اللحظات، والاستعداد لبذل الغالي والرخيص فداء للوطن كان غالباً على مشاهده، كما عمل الفيلم على إبراز الحب والخير الموجود في نفوس السوريين حتى ممن غرر بهم بطريقة أو بأخرى، فشكّل دعوة للتسامح بين الأفرقاء من أجل إعادة نبض الحياة لهذا البلد، وسلط الضوء على تجار الأزمات والمستفيدين من إطالة عمر الحرب واستنزاف البلاد وغيرها من المواقف التي عبرت عن حال السوريين في ظل هذه الأزمة.

لقد تميز الفيلم بلهجة بسيطة لامست أرواحنا، وبوضوح كبير في إيصال الأفكار، وهذا إن دل على شيء فيدل على أن المخرج (جود سعيد) قد خرج من بين الناس وحاول إيصال صوتهم والوصول إليهم بشكل واقعي، لا من برج عاجي كما يفعل البعض، فاستحق بذلك تقديراً شعبياً يضاف إلى الجائزة الجميلة التي نالها الفيلم كأفضل فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية، إحدى تظاهرات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته ال،37 بالرغم من رفض السلطات المصرية منحه تأشيرة دخول لأراضيها.

إن أصدق الفنون وأكثرها استدامة هي تلك التي تعبر عن نبض الجماهير، عن معاناتهم، وآلامهم،و حبهم وآمالهم، واستطاع جود وكل من شاركه بهذا العمل الجميل، بإبداعهم وقربهم من الناس، تجسيدها بأجمل الصور، فكان (بانتظار الخريف).

العدد 1104 - 24/4/2024