للحرب ظلٌّ ثقيل يُطيح بنقاء الأبيض والأحلام

 تتمنى النفوس وتهوى، إنما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ودائماً ما تحدث في لجّة الواقع أمواجٌ عاتيةٌ، تشتتُ الرغبةَ إلى اتجاهاتٍ في غير الطريق المرسوم في النفس.

تلك هي حالة الفتاة في المجتمع، هي دائماً ما تكون عرضةً للقبول بواقع الزواج على غير رغبتها، فالفتاة التي رضخت في البداية لعدم الخروج عن طوع العائلة- القبيلة- العشيرة، وإن تخلّصت من تلك القيود، فستجد نفسها ضمن قيودٍ أصعب، تتحكم فيها حالة الشباب الاقتصادية، فيصدمها الواقع الأليمُ، وغالباً ما تصيبها الخيبة بأن الشّاب الذي رغبت به شريكاً لحياتها، واختارته لبعض المواصفات التي رأت فيها ما يناسبها، تجدهُ غير قادرٍ على إتمام متطلبات الشراكة لأسباب عديدةٍ، أهمها الحالة المادية التي يُعاني منها معظم الشباب، حتى وإن كانوا منتجين مادياً، إنما هذا الإنتاج يبقى أقل من إمكانية تأمين الاستقرار العائلي، فتذوب الأحلام، وتبقى الآمال عند الفتاة في أرجوحة الانتظار والمعاناة والقلق على مضيّ سنوات العمر، دون ارتباط عائلي يؤمّن لها استقرارها في الحياة، فيبقى الأمل متأرجحاً كالريشة في مهب الريح.

من نافلة القول أن الاستقرار العائلي، تكون أولى ركائزهُ، السكن، والدخل المادي، إنما في مجتمعنا الذي انفلتت فيه الأسعار دون قدرة الدولة على ضبطها، صار تأمين السكن حلماً صعباً أو مستحيلاً لأغلب الشباب، وصار ضرباً من الخيال، وهذا ما يجعل التفكير في الزواج مؤجّلاً أو مهملاً نهائياً، وتلك ظاهرة باتت تستفحل في مجتمعنا، كالوباء الذي يستحيلُ علاجه.

في الحرب الدائرة الآن تضخمّت تلك المستحيلات السابق ذكرها، بسبب عدم سيطرة القانون على انفلات تجار الحروب كالذئاب الجائعة، وامتصاصهم لدماء الناس، من المتاجرة برغيف الخبز والغذاء أولاً، مروراً بالمواصلات والوقود والخدمات العامة والتعليم والاستشفاء والأمن والأمان، وصولاً إلى إهانة كرامة الناس، بصعوبة الحصول على السكن وإن كان إيجاراً، بحجّة كثرة المهجرين من مناطقهم، وحجّة أن العرض أقل من الطلب، فصارت التجارة بالمساكن والغذاء من أسوأ ما عرفته بلادنا من إهانة للمواطن.

هذه الحرب بواقعها الأليم، أجبرت الشباب على الضياع والهجرة إلى خارج البلاد بأعداد هائلة، والأغلبية الباقية معظمها منخرط في الحرب، مما جعل التندّر بخلو المجتمع من الشباب حقيقة مؤلمة، وفقدت الفتياتُ الأمل في الوصول إلى الاستقرار بالزواج، وتضخّم الخوف من الوصول إلى العنوسة، فصارت الفتاة ترغبُ بأي منقذٍ من هذا الوضع، وحتى أنها تفكّر في القبول بأي أحد وإن كان لا يناسبها فكرياً وثقافياً واجتماعياً، مما يسبب انحداراً في الثقة بحياة كريمة لأغلب الفتيات.

إن هذا الوضع المرير، وهجرة الشباب، جعل أسلوب الزواج يعود إلى التقاليد القديمة عن طريف التعامل مع الخطَّابات، وعن طريق التعارف بوسائل التواصل الحديثة، والقبول بالصور والكلام غير المؤكّد صحته، مما ينذر بواقع جديد مُصطنع، هش البنيان، غير مستقر وغير صحيح في بنيته العاطفية والأخلاقية والاجتماعية، هذا الواقع يفرضه خوف الفتاة من العنوسة، وقبولها بأي حالة زواج، دون مستوى الطموح الذي كانت ترغبُ به.

صحيح أننا في حالة حربٍ قذرة مهما كانت دوافعها وأسبابها، ومهمة الشباب الأولى هي الالتزام بقوانين التجنيد العامة في الدولة، إنما هذا الوضع لا يعفي الدولة من أن تعمل ومؤسساتها بالشكل الصحيح، في رعاية هؤلاء الشباب ورعاية جميع أفراد المجتمع، وفرض سيطرة القوانين التجارية وقوانين العمل والأجور، وتنفيذ مراقبة الأسعار وعودة الدعم للسلع الغذائية والدوائية، وفرض هيبة الدولة على قوانين الإيجار والتمليك للسكن بشكل يحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للشباب، الذين هم البناة الحقيقيون للدولة خلال الحرب، وما بعد الحرب، إنَّ وجود القوانين الصحيحة في الدولة سيجعل الشباب لا يفكرون بالهجرة، عندما يجدون إمكانية الحياة الكريمة في وطنهم.

العدد 1107 - 22/5/2024