الصين تربك حسابات واشنطن المالية والدبلوماسية

أعربت حكومة الصين الشعبية عما أصابها من إحباط تجاه بطء وتيرة الإصلاحات الاقتصادية في منطقة آسيا، التي تحتاج إلى ما يقارب 10 تريليون دولار من الاستثمارات في البنية التحتية لمواصلة التنمية الاقتصادية بين عامي 2010 و2020 وذلك حسب تقديرات مركز الدراسات الآسيوية للتنمية.. وكانت مقتنعة في الوقت ذاته بأن تسريع عملية النمو الاقتصادي بالاقتراض من المؤسسات المالية العالمية التي تسيطر عليها كل من الولايات المتحدة واليابان لن يخدم مصالحها الاستراتيجية في القارة الصفراء.. بناء على ذلك ظهرت فكرة إنشاء (بنك الاستثمارات الآسيوية للبنية التحتية AHB)، من أجل تمويل المشاريع الإنمائية، خاصة في مجالات النقل والطاقة والاتصالات، وبما يسمح لبكين بلعب دور أكبر في التنمية الاقتصادية في منطقة آسيا.

إن هذا الموضوع مرّ مرور الكرام في نشرات الأخبار، إلى أن أعلنت أربع قوى أوربية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، انضمامها إلى هذا المركز الذي يضم حالياً 32 دولة بقيادة الصين، في خطوة قد تحدث شرخاً في العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين، علماً بأن الغرض الأساسي من هذا البنك هو توفير التمويل لمشاريع البنية التحتية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو أمر قد يعني نشوء منافس حقيقي لصندوق النقد والبنك الدوليين والبنك الآسيوي للتنمية، وهي كلها تهيمن عليها الولايات المتحدة.

إن هذه الخطوة المنسقة من جانب حلفاء واشنطن بالمشاركة في المشروع الصيني الاقتصادي والدبلوماسي السريع، حسب متابعي الشأن الصيني، هي صفعة دبلوماسية قوية بوجه المساعي الأمريكية الرامية إلى الحد من تنامي النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي السريع للصين.

ويرى بعض الخبراء الاقتصاديين، أن مشاركة الدول الأوربية في البنك الجديد تعكس حرص قادة هذه الحكومات على الاستفادة القصوى من ثاني أكبر اقتصادي في العالم.. وعلى سبيل المثال يشير الباحث الكبير في معهدGIGA  للدراسات الآسيوية في ألمانيا مارغو شولر، إلى أن هذه الدول الأوربية تتمتع بتجارب طويلة الأجل في مجال التنمية المالية، التي يمكن أن تضعها في خدمة البنك الجديد، لضمان التزامه بالمعايير الدولية، إلى جانب العلاقات الاقتصادية القوية التي تجمعها مع الصين ودول آسيوية أخرى، إضافة إلى الطلب الكبير على الطاقة والنقل والمياه والاتصالات، فإن الشركات الأوربية مهتمة بالمشاركة في بناء البنية التحتية الحديثة في آسيا والاستفادة المالية منها.

لاشك بأن هذه التطورات قد أربكت حسابات واشنطن التي تساءلت عما إذا كان لهذا البنك ما أسمته معايير جيدة للحوكمة وضمانات بيئية واجتماعية سليمة.. وفي هذا السياق قال جوك ليو، وزير الخزانة الأمريكي: (إن الصين وغيرها من القوى الصاعدة تتحدى قيادة أمريكا للمؤسسات المالية العالمية، وشجع مشرعي الكونغرس على التصديق بالسرعة القصوى على الإصلاحات المتعلقة بصندوق النقد الدولي). كما أشار خلال شهادته أمام لجنة الخدمات المالية التابعة للكونغرس إلى أهمية صندوق النقد والبنك الدوليين في المحافظة على نفوذ الولايات المتحدة الاقتصادي والسياسي في جميع أنحاء العالم، مؤكداً أن استثمارات حكومته في هذه المؤسسات تعزز مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية. وتعتبر الولايات المتحدة من أكبر المتضررين من هذا المشروع الطموح، لأنها وظفت بنوك التنمية الخاضعة لسيطرتها لعقود عدة لتحقق مكاسب سياسية لها في الساحة الدولية (مثل التصويت في مجلس الأمن)، أو لتؤثر من خلالها في السياسات الداخلية للدول الأكثر فقراً.. لذلك فإن واشنطن تخشى من أن تحذو البنوك التي تسيطر عليها الصين حذوها لتهز أركان النظام الدولي أحادي القطبية الذي تقوده.

وتعليقاً على هذا الأمر يقول حيف كيجسون، أستاذ الدراسات الآسيوية في جامعةTEMPLE  اليابانية: (ببساطة إن واشنطن وطوكيو قلقتان من أن تتمكن  الصين من توسيع نفوذها على حسابهم في المنطقة، وبناء على ذلك حثت واشنطن حلفاءها على ما أسمته (التفكير مرتين) قبل الانضمام إلى البنك الذي تقوده الصين، إلا أن واشنطن ستواجه مصاعب كبيرة في إقناع حلفائها أو الحيلولة دون إقراضهم من البنك الصيني، لأن الصين ستكون قادرة على إنشاء الترتيبات المؤسساتية لإقراض الآخرين في حال امتلكت الكثير من الأموال، ما سيؤدي إلى قبول معظم الدول بهذا الأمر واتخاذها القرار بالانضمام إليه للاستفادة منه أو التأثير في الإجراءات الجديدة عوضاً عن البقاء خارج اللعبة).

في السياق ذاته قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد المدعو فيليب ليبسي، في مقالة نشرها مؤخراً في المجلة الأمريكية للعلوم السياسية: (إن مدى تكيف المؤسسات العالمية مع المتغيرات في ميزان القوى الدولية يعتمد بشدة على الخيارات الخارجية الجذابة للدول القوية، وهذا ما فعلته الصين بالضبط، إلا أن بكين لم تبد رغبتها حتى هذه اللحظة بإجراء تغييرات جذرية على النظام الرأسمالي العالمي أو مؤسساته بسرعة، بل هي تطالب بإلحاح بالمشاركة الفعالة في صنع القرارات الدولية، خصوصاً تلك المتعلقة بالسلم والحرب، لأن الولايات المتحدة تنفرد في كثير من الأحيان بهذا الأمر، وتحرم الآخرين من المشاركة فيه.

ويقول الباحث الكبير تشارلز كيني الذي يعمل في مركز التنمية العالمية: إن الولايات المتحدة قد فشلت في القيام بدورها في بناء قدرات المؤسسات العالمية القائمة من جانب واحد، ومنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في حين وقفت ضد محاولات القوى الصاعدة في ملء الفراغ، لذلك فإن التحرك نحو مزيد من التمويل العالمي للتنمية هو أمر جيد للجميع، وبضمن ذلك الولايات المتحدة، لأن بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتيةAIIB  الذي تقوده الصين سيوفر الأموال التي ستدعم البنية التحتية للكثير من الدول النامية ويوفر المياه النظيفة والكهرباء والمواصلات، الأمر الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى تحسين المستويات المعيشية للملايين، سواء كان التمويل بالعملة الصعبة (اليوان أو الدولار). كما أن وجود أعضاء أوربيين ضمن هذا البنك من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة الأمريكية نحو المزيد من التعاون مع الصين، بدلاً من اكتفائها بتوجيه اللوم إلى الدول الغربية الراغبة بتعزيز علاقاتها مع بكين وتعزيزها.

باختصار.. غريب أمر الإدارات الأمريكية المتتالية التي ترفض أن تشاركها الدول الكبرى والصاعدة في اتخاذ القرارات الدولية، والتي تصر على الانفراد باتخاذها وكأنها وصية على الكون بأسره، وعلى دول العالم كبيرة و(صغيرة) أن تنفذ أوامرها من دون مناقشة، ولكن في نهاية المطاف بدا ويبدو أكثر أن عجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء.

العدد 1107 - 22/5/2024