رأب الصّدع ووقف نزيف الدماء

تتسع دوائر المصالحة في مناطق عدة في سورية، وبدأت هذه التجربة تترسّخ تدريجياً واقعاً لا يمكن تجاوزه من جهة، ومصطلحاً سياسياً بدأ يحقق قناعات بين المواطنين من جهة ثانية.

وقد نجحت هذه التجربة في مناطق، وفشلت في مناطق أخرى، ومازالت تؤخر إنجازها العثرات والصعوبات بعض الجماعات المسلحة من غير السوريين، كما في مخيم اليرموك والغوطة الشرقية.

بيَّنت تجربة المصالحة بين الجيش السوري والحكومة السورية من جهة، والمسلحين من جهة ثانية، أنها تهيّئ الأجواء في المناطق الساخنة التي يحتدم فيها القتال، للانتقال إلى حالة من الانفراج وإعادة الأمن والحياة إلى تلك المناطق، وعودة السكان إلى بيوتهم وممارسة أعمالهم وحياتهم الطبيعية.

وتعني المصالحة أول ما تعني: رأب الصدع وردم الهوّة التي تعمَّقت وأطالتْ عمر الأزمة في سورية، ووقف القتال ونزف دماء السوريين ونزوح المواطنين من بيوتهم،  وتوزعهم في مناطق الإيواء بالمحافظات السورية.

وتُعدُّ المصالحة من جهة أخرى خطوة صحيحة في طريق الحل السياسي. ويشارك في التمهيد لها وتخفيف الآلام الناتجة عن قتال ما يزال مستمراً منذ سنوات، قوى سياسية واجتماعية ورجال دين ومثقفون وكتاب وفنانون، وشخصيات وطنية مشهود لها بالعمل الوطني. وعدد من الوجوه الاجتماعية المعروفة بسعيها إلى تحقيق التوافق والاتفاق بين أبناء الوطن الواحد. على أساس التميز بين من لم يقوموا بأعمال القتل، ومن تورَّط من السوريين وغرق في الأوهام المبثوثة من الإعلام المأجور بسقوط الدولة، ومن جاء جاهزاً يحمل السلاح (غيوراً على الإسلام والمسلمين في سورية وبلاد الشام)، لبناء الدولة البديلة كما يتوهمون التي (تشرق الشمس منها على العالم وتوزع حصص العدالة بالقسطاط دون مواربة..!).

وإذا أجرينا قراءة أولية لما جرى من مصالحات منذ عامين، نلاحظ أنّ المناطق التي أنجزت فيها المصالحة واعترف المسلحون بأخطائهم، وأنهم لن يعودوا إلى حمل السلاح والوقوف بوجه الدولة، ساهمت فعلياً بتضييق المساحات الجغرافية التي يسيطر عليها المسلحون، في حين يتابع الجيش السوري والحكومة تأمين الخدمات وإعادة الاستقرار إليها. وأثبتت نتائج المصالحات الناجحة، بأنَّ تحقيق الهدف القريب شكَّل أرضية صالحة لا لتسوية أوضاع المسلحين فقط، بل لإعادة اللحمة الوطنية وإزالة الإشكالات المسببة لذلك. ومن الدروس العملية التي حققت الفائدة أن المصالحة الوطنية في سورية ليس عملية (بوس اللّحى)، بل هي عمل وطني جدّي لغسل الآلام وإزالة العوامل الضاغطة التي أثّرت على ضعاف النفوس والمغرّر بهم من خلال سياسة (الترغيب والخوف والترهيب) التي يمارسها أصحاب الذقون الحمراء والسوداء القادمين من الدول العربية ومن نحو ثمانين دولة في العالم.

المصالحة الوطنية في النتيجة هي الضمانة لتضميد الجروح، وإزالة الغبش  من عيون من مدَّ يده وتعاون مع الظلاميين – التكفيريين. والشعب السوري هو المخوَّل الوحيد بنزع شوكه من جسده وحل مشاكله الداخلية، وهو الذي رفض خلال تاريخه الطويل، ويرفض اليوم وفي المستقبل بقوة، أي تدخل خارجي.

وهناك من يحاول (في داخل سورية وخارجها) تشويه الوجه الحقيقي للمصالحة، وإثارة العصبية العائلية والنزعة العشائرية، والقول إنّ المصالحة ما هي إلاَّ فقاعات صابون سرعان ما تتلاشى. وآخرون يرون عكس ذلك – وهم الأكثرية الساحقة –  يرون أن المصالحة هي عملية حوار بين أبناء الوطن الواحد، لردم الهوة التي حفرها المتآمرون الأوربيون والخليجيون وغيرهم، من أجل الوصول إلى التوافق الوطني والسير إلى الأمام وإزالة جميع العقبات وصولاً إلى حل سياسي سلمي يستند على قيم التسامح في المجتمع والحفاظ على النسيج الاجتماعي ومكوناته، وأن يعيد لسورية وجهها المشرق.. سورية المستقبل.. سورية الدولة المدنية التعددية العلمانية الديمقراطية البيت الآمن لجميع أبنائها.

العدد 1105 - 01/5/2024