باخ… خلق وعاش ليبدع

 عبقري ألماني متناقض.. متناقض في أحاسيسه الموسيقيّة، فتسمع في المقطوعة الواحدة ربما أكثر من أربعة أحاسيس متناقضة!

له تأثير خفيّ، لا يمتلكه الكثير من الفنانين، تأثير يأخذك معه إلى عالمه الخاص، يأخذك بموسيقاه إجباراً أو اختياراً، إلى عالم آخر تماماً.. إنه حقّاً فنان مبدع.

لدى باخ روح خاصة في موسيقاه،  فلو أنّك معتاد على سماع باخ، ستعلم أنّ تلك المقطوعة – رغم أنّك لم تسمعها من قبل – هي لباخ.. فلأسلوبه روح خاصّة به وحده، له تعبير يسمو بالنفس إلى أعلى درجة، ويعتبر مزيجاً بين الطمأنة والرهبة، وهذا نتاج تأثّره بالنّزعة الدينيّة، فقد عمل عازفاً للأرغن في الكنيسة، وكانت ألحانها دينيّة، وفي الدّين يبرز إحساس الرغبة والرهبة كما نعلم، ولكنّ البديع حقاًّ أنّه يمزج بين الإحساسين في مقطوعة واحدة، بل ربما في الدّقيقة الواحدة، بل في العشر ثواني الواحدة!

إنّ القول بأنّ الموسيقار الألماني النابغة، يوهان سباستيان باخ ولد وترعرع في عائلة لها باع طويل في عالم الموسيقا، لا يأتي في محاولة لتبرير إبداع واحد من أهمّ الموسيقيين الكلاسيكيين في عصر الباروك، بل من منطلق السّرد الأمين لحياة موسيقي خلق وعاش ليبدع. فالموسيقار الذي ألّف قطعاً موسيقيّة في جميع المجالات الموسيقيّة المعروفة، عدا الأوبرا، ولد لأب امتهن عزف الكمان، وكان له أخ كانت الموسيقا شغله الشاغل.

و قد يعتقد البعض أنّ عزفه المحترف على آلتي الأرغن والكمان، وانحداره من عائلة تضم عدداً من الموسيقيين المعروفين، مهّدا الطّريق أمامه للحصول على عمل مهم في عالم الموسيقا. لكنّ فرص العمل كانت محدودة جداً. ففي عام 1703 حين كان عمره ثمانية عشر عاماً وجد وظيفة للمرّة الأولى عازف كمان في بلاط أحد الأمراء الألمان، لكنّه لم يشعر بأنّه في مكانه المناسب، وبعد أشهر قليلة كشف للمهتمين عن موهبة تستحق المتابعة والاهتمام، فيما بعد أصبح باخ عازف أورغن في كنيسة أرنتات، حيث بدأ بكتابة أولى مؤلفاته الموسيقية الدينية.

في عام 1723 تقلّد باخ منصباً مهماً حين أصبح المسؤول عن الموسيقا في كنيسة القديس توما اللوثرية في مدينة لايبزيغ، وبقي في وظيفته هذه حتى وفاته عام 1750. كان عليه أن يؤلّف الألحان الغنائية والأناشيد الدينيّة لكنائس أخرى، إضافة إلى هذه الكنيسة وبالتالي كان وقته (يعجّ بالنّوتات الموسيقيّة)_ على قوله.

يشمل إنتاج باخ الضّخم مؤلفات للأورغن والكمان والكلافيكورد والهاربسيكورد (هذان الأخيران هما البيانو في شكلين سابقين) وأوركسترا الصالونات إضافة إلى العديد من الأغاني. ومع أنّه كتب تلك الأعمال الهائلة العدد، فلم يستطع نشر إلا نحو عشرة منها، وحتى بعض هذه اضطرّ لدفع ثمن نشرها من جيبه.

ومن أعماله الشهيرة أيضاً (كونشيرتوهات براندنبرج) الستّة التي ألّفها في عام 1721 و أيضاً (تنويعات غولدبرج) و(الـسويتات) الإنكليزية والفرنسية و(سويتات التشيلّو)، و(القدّاس في سلم سي الصغير)، و(القربان الموسيقي)… على سبيل المثال.

قضى باخ عام 1749 معتلاً وبدأ بفقد بصره بسرعة، وفي 1750 خضع لعمليّة جراحيّة غير ناجحة في عينيه، على يد الطّبيب الإنكليزي جون تيلور الذي كان يزور لايبزيج، وأجرى سابقاً عمليّة مماثلة، وغير ناجحة أيضاً، على المؤّلف هاندل. وفي 28 تموز(يوليو) 1750 توفي باخ عن 65 عاماً بجلطة دماغيّة تزامن معها التهاب رئوي. وقيل وقتذاك إنّ سبب وفاته هو تعاسته لفشل العمليّة الجراحيّة مضافاً إلى إحساسه بأنّه صاحب موهبة لا يستطيع أحد رؤية عظمتها.

العدد 1105 - 01/5/2024