خيارات سورية حاسمة

تدور على أرض سورية رحى صراع كوني، بين سدنة العولمة المتوحشة الذين يسعون لاستعادة هيمنة وحشية وطاغية على العالم أضاعتها إدارة بوش الابن الفاشية الشرهة. وبين كل القوى السورية التي تحرص على بقاء الدولة السورية، مدعومة من مجموعة البريكس ودول وتنظيمات تسعى للتحرر والنمو، ومن تيار عالمي مناهض للعولمة المتوحشة أفرزته المجتمعات المدنية قدم شهيده الأول في ساحة قريبة من تلك التي أحرق فيها جوردانو برونو.

إذ يُجمع الباحثون في الاقتصاد منذ سنوات، على أن نمو اقتصاد الدول الرأسمالية الكبرى- وفي مقدمتها العملاق الأمريكي- ينكمش بوتائر تهدد بسلسلة من أزمات حادة قد تفضي إلى كارثة كبرى، وأن تلك الدول لم تعد قادرة على حماية استقرارها ورفاهيتها ومكانتها  السياسية بالاعتماد عليه. فقد سبق أن وضَّحت معادلة صاغها عالم رياضيات هندي، مفادها أنه كبر النجم، كلما كان احتضاره وموته أسرع. وثمة وجه شبه بين النظام الرأسمالي اليوم ممثلا بالدول الكبرى، وبين نجمٍ عملاق يعاني نقصاً في المواد القادرة على تأمين طاقة بقائه، فينكمش محتضراً.

بعض ربابنة الرأسمالية (منذ تاتشر وريغان) اعتمدوا لمعالجة النقص والانكماش ، ما اصطلح على تسميته (العولمة المتوحشة)، التي قدمت حلاً  يقوم على التهام القوي لكل طاقة يمكنه التهامها وبدون ضوابط. عملياً التهموا طاقات العديد من الدول، لكنهم.. كلما التهموا كبر حجمهم، واحتاجوا -كمدمن المخدرات- لابتلاع طاقات بلدان أكبر.

مؤخراً اختاروا سورية.  فمن خلال الأزمة السورية الراهنة يسعى قادة العولمة المتوحشة إلى:

 1- العودة إلى سياسة حافة الحرب، لتضع العالم كله من جديد رهينةً بيد قوتها العسكرية الضارية، بعد أن انكشف ترهُّل اقتصادها.

2- غلق الأبواب والنوافذ في وجه المطالبة بتغيير النظام العالمي أو إصلاحه، رغم إجماع مراكز البحث(الاقتصادي، الاجتماعي)، على أنه بات أمام جدار شبه مسدود، وإكراه الآخرين على دفع فاتورة أزمات تلك الأنظمة، لتأمين دوام رخائها.

3-  استكمال الترتيبات التي تؤمن لها سيطرة تامة على منطقة الشرق الأوسط، وتهديد جواره (روسيا والصين).

على هذه الجبهة التي باتت الجبهات الأخرى ملحقة بها، تتطلع بريطانيا لتلعب دوراً مماثلاً للذي لعبته فرنسا في ليبيا (رأس الحربة والقائد الميداني لغزوها)، آملة باستعادة بعض مجدها الاستعماري القديم، وحصة الأسد محفوظة دائماً (كما ليبيا) للولايات المتحدة الأمريكية.               

بديهي أن تسعى دول مجموعة البريكس للحيلولة دون افتراس جهود مجتمعاتها لسنوات، كما حصل لنمور آسيا. وهي إذ تلمس تخوف العديد من مراكز البحوث الاقتصادية والبيئية من أن نظم العولمة المتوحشة تميل مجدداً لإغفال التحذيرات القائلة بأن سياساتها ستولد إعصاراً يدفع نصف البشرية إلى ما تحت حافة الفقر، والحياة على كوكب الأرض إلى حافة الكارثة (قبل نهاية هذا القرن). فإن المرجح أن ترى، أن ما سيسفر عنه الصراع الدائر في سورية، سيرسم تفاصيل أمنها واقتصادها للعقود القادمة.  ربما لذلك أطلقت كل من روسيا والصين، تأكيدات متعاقبة مفادها أن أحدهما لن يضحي بمصالحه الاستراتيجية لمنع سقوط عربة  الصراع في هاوية الحرب. مصالح استراتيجية تلتقي مع نمو الجبهة العالمية المواجهة للمفترسين.

حتى اللحظة يتأرجح مسار ذلك الصراع الدولي، بين الحرب الباردة وحافة الحرب، فطاقات الأطراف المتصارعة لا تزال أدنى من أن تمكن أحدهم من تحقيق حسم له ولصالحه بتكاليف يبررها ريع مأمول . ربما ذلك ما أعطى فرصة لولادة مبادرة (كوفي عنان)، ولإجهاضها معاً.      

مبادرة ما إن انطلقت، حتى بدأ الحفر في أساساتها على يد السعودية وقطر وإسرائيل. لإزاحة دعم حظيت به من ببعض الدوائر الأمريكية والأوربية القلقة من هشاشة هيكل اقتصاد دولها، ومن مغامرات قد تضعف اقتصاد تلك الدول (الطبيعي)، لصالح ما اصطلح على تسميته (الاقتصاد الوهمي). وإذ جهدت روسيا والصين في السنة الماضية لمنع وصول العربة إلى حافة هاوية الحرب في المنطقة، فإن الثلاثي ،السعودي الإسرائيلي القطري، مدعوما بخبرات الدبلوماسية البريطانية العريقة، يدفع بقوة نحو حرب يشنها الناتو، تماشياً مع رهان صقور العولمة المتوحشة (خصوصاً الأمريكيين منهم)على تراجع روسيا والصين في اللحظة التي تقف فيها عربة الصراع عند حافتها. يؤازرهم طيف من المعارضة السورية وعلى رأسه مجلس إسطنبول، الذي يعمل إلى جانب قوى الجبرية التكفيرية بزعامة الوهابية، وتحت إمرة قوى العولمة المتوحشة الإقليمية والدولية.  ويطرح السؤال نفسه:

هل يمكن لمن اختار لنفسه ذلك الموقع، أن يكون مع من يسعون للانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية؟

  هل يمكن أن يؤسس حلف مشكل من سوط المطاوع وحاسوب المخابرات المركزية الأمريكية، لحرية أو عدالة ومساواة؟.

وهل عاد العرب إلى عهد كانوا يقاتلون فيه لصالح إمبراطوريات غير عربية، أو تحت راية ملك عربي تابع لإحداها؟

تبدو الحرب على سورية وكأنها قادمة من تلك الحقبة.

مرجح أن الحرب على سورية، لن تشهد حلاً قبل أن تستنفد الإدارة الأمريكية وحلفاؤها كل فرص اختبار قابلية روسيا والصين للتراجع عند حافة الحرب، ويرجح أن يشهد العالم لحظات مشابهة لتلك التي اختبر فيها كل من  (كنيدي) و(خروتشيف)، في الأزمة الكوبية.  

حتى مجيء تلك اللحظة المعلقة في المستقبل سيستمر تصعيد النزيف السوري. هو زمن سيستهلك طاقات سورية وبنيتها التحتية وأرواح الآلاف من أبنائها. قد يخفف من ذلك النزيف، ويعطي سمة لمستقبل يلي توقفه، أن تأخذ تلك الحرب هوية واضحة.

انطلاقاً من أن كل خلية حية تموت إذا ما عزلت. على العقل السياسي السوري أن يختار صحبة دولية لخلية هي سورية.                    

 ما اختاره عقل مجلس إسطنبول ومعارضة الرياض والدوحة لها، هو دول ترغب في امتلاكها أو بافتراسها بعد تمزيقها.

قال رئيس الجمهورية العربية السورية: (سنتوجه نحو الشرق).

التوجه نحو الشرق يعني الموافقة على تغيير جذري لبنية السلطة. ويبقى السؤال كيف، وبماذا؟.

ليس صعباً استنتاج أن (كيف وبماذا) المشار إليهما، تحتاجان إلى طاقة من خارج السلطة لتدب فيهما الحياة. أي لحوار وطني حقيقي، يفضي لبرنامج معتمد. فتخفيف معدلات النزيف وصولاً إلى إيقافه، يحتاج إلى تلك التسوية المفترضة.

في المجتمع السوري طبقة متوسطة. مرجح أنها ستقبل بتحالف مع مجموعة البريكس، إذا كان ذلك يحفظ وجودها، في الوقت الذي تخشى فيه من أن الجبهة الأخرى ستعطي فرصة لشريحة منها لتطحن بقية الطبقة، وقد رأت بعينيها أفراداً من الطبقة المتوسطة الأمريكية تطحنهم عولمة بوش. ويرجح أن الطبقات تحت المتوسطة، وتدفع  ودائماً جل فواتير الأزمات والكوارث، سترحب بتحالف مع البريكس، لا سيما أن ذاكرتها لا تخزن أذية لحقت بها من دول تلك المجموعة، بل وتخزن المنفعة.

إنجاز توجه حقيقي وعملي نحو الشرق، هو  إجرائياً، تغيير جذري فعلي وسلمي للنظام الراهن، يرجح أن تؤيده غالبية السوريين. التي تعارض في الوقت نفسه وبقوة إسقاطه على يد الغرب وحلفائه الإقليمين والسوريين.

هناك فرصة إذاً للخروج من المأزق، عبر تحالف مجتمع معارضة سلطة، لبناء نظام يرمم الخراب ويدفع البلاد نحو عصر أنوار سوري.

أن تطرح السلطة والمعارضة على المجتمع حكومةَ وحدة وطنية،  وتطلب منه أن يمنحها وبرنامجها وفي استفتاء حر.. شرعية الحكم.  حكومةً  تأخذ على عاتقها تشكيل جبهة سورية مضادة لجبهة العولمة المتوحشة، وترفع طاقة الوطن إلى مستوى يقنع الآخرين،أن تكلفة هزيمته ستكون أعلى من الريع المأمول. هو أمر في خانة السلطة والمعارضة الوطنية.

حكومة تشرف على صياغة دستور جديد، وقانون انتخابات نيابية جديد، وتشكيل نقابات واتحادات تمثل وتعبر عن مصالح أعضائها، وتزيح القبضة الأمنية الثقيلة عن صدر المجتمع، وتخلي سبيل عديمي الكفاءة التخصصية والتأهيل الأخلاقي ممن يشغلون مراكز حساسة في مؤسسات الدولة وينخرونها من الداخل، وتحضر لانتخابات برلمانية تعقبها انتخابات رئاسية في نهاية ولاية الرئيس الحالية، وفق محددات زمنية موضوعية تضمن تفكيكاً آمناً لبنية السلطة، وتأسيس متزن ومتزامن لبنية دولة مدنية ديمقراطية علمانية، وسلمياً. أي مرحلة انتقالية مبرمجة، بشرعية مستمدة من استفتاء (افتراضي) مباشر، تحفظ سلامة الدولة وسلمها الأهلي، بعيداً عن النفعية السياسية الضيقة، وعن الارتجال.

أن تقتنع المعارضة أنها أمام خيارات ثلاثة:

* أن تنضم إلى معارضة إسطنبول.

*  أن تقرر النزول إلى ميدان الصراع المباشر ضد الدول والأطراف التي تهدد الدولة السورية، من خلال حكومة وحدة وطنية منوه عنها.

*  أن تنأى بنفسها عن أي من الخيارين السابقين.

الأول يفقدها صفة الوطنية، ويجعل معظم دِيَكتها تصيح في كورال لا في (سولو). والثاني يهب غالبية سكان سورية أملاً، ويشحن عزيمتهم للدفاع عن دولتهم وبناء مستقبل أفضل. والثالث يحيلها إلى نسخة مسحوبة عن صورة لحمار (بوزيدان)، الذي نفق واقفاً بين كومتين من القش، وهو يسأل نفسه: من أي منهما سيأكل؟

ماذا ستفعل؟.

يفترض بمعارضة وطنية  في أي من دول العالم الثالث، أن تكون في صفوف الجبهة العالمية التي تقف في وجه من يدفعون ما يزيد عن نصف سكان العالم نحو المجاعة.

العدد 1104 - 24/4/2024