سيناريوهان مخيّبان للهاوية المالية الأمريكية

بن برنانكي، حاكم المصرف الفيدرالي الأمريكي هو أول من أطلق مصطلح (الهاوية المالية أو المنحدر المالي Fiscal Cliff)، الذي يُتداول اليوم على نطاق واسع في الإعلام الاقتصادي. ويعني بشكل مبسط تزامن شيئين اثنين معاً في قوانين الضرائب أحلاهما مرُّ، كما يقول المثل العربي. كما يُوجد في المصطلح إشارة ضمنية إلى القانون الصادر عام 2011 المتضمن برنامج الزيادات الضريبية والاقتطاعات في النفقات العامة، والذي سيدخل حيز التنفيذ تلقائياً ابتداءً من مطلع كانون الثاني القادم، ما لم يُتوصل إلى اتفاق بين الرئيس أوباما وأعضاء الكونغرس الجمهوريين والديموقراطيين حول كيفية تخفيض العجز في الموازنة الأمريكية. وبهذا يكون المصطلح وصفاً للمعضلة أو للكارثة الكبرى التي ستواجهها الولايات المتحدة الأمريكية عند منتصف ليلة 31/12/ ،2012 حين تتم جدولة قانون السيطرة على الميزانية الصادر، كما ذكرنا، في عام 2011 كي يصبح نافذاً.. المرجّح إذاً أن تشهد الأيام والأسابيع القليلة القادمة التي تفصل الأمريكيين عن رأس السنة وضع حدّ نهائي لقائمة خفض الضريبة المؤقت (إحدى الذكريات من عهد بوش)، وفي الوقت نفسه الاتفاق على قانون بديل لفرض زيادة على الضريبة مع محاولة تخفيض الإنفاق. فهل سيتم ذلك بيسر وسلاسة تتلاءم مع احتفالات الأمريكيين بليلة رأس السنة؟

بالطبع لا! وهذه ال (لا) هي جوهر ومغزى مصطلح الهاوية المالية أو المنحدر المالي!

لأنّ السياسة التي تتطلب تزامن الشيئين معاً (فرض زيادة في الضرائب مع محاولة تخفيض الإنفاق العام) ستؤدي إلى إدخال الاقتصاد في نفق الكساد، على الرغم من هدفها المُعلن العريض المتمثل بخفض المديونية التي تخطّت الأرقام الفلكية.

هل سيتفق ساسة الولايات المتحدة بعدئذ على كيفية تجنّب المنحدر المالي Fiscal Cliff؟

الجواب: حتى الآن لا يزال السجال محتدماً، فبينما يرى الديمقراطيون خفض العجز بطريقة متوازنة ورفع الضرائب المفروضة على الأغنياء وخفضها على أبناء الطبقة الوسطى والمحدودة وأصحاب الشركات الصغيرة لخلق وظائف جديدة، يرفض الجمهوريون ذوو الأغلبية في مجلس النواب رفع أيّ ضرائب، ويصرّون على خفض الإنفاق العام على البرامج الاجتماعية التي يعدّها الديمقراطيون سرّ أسرارهم.  

الهاوية المالية أو المنحدر المالي القادم تتطلب إذاً التوصل إلى اتفاق بين قطبَيْ السياسة الأمريكية (الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) قبل نهاية العام الميلادي ،2012 وإلا فالنتيجة الحتمية هي (الكساد) الذي سيتعرّض له الاقتصاد الأمريكي، إذ يقدر أن يكون مقدار الانكماش المالي فيه بحدود 600 مليار دولار عام ،2013 وسيكون هذا الانكماش مدخلاً لعواقب لا عدّ لتفرعاتها ولا حصر لارتكاساتها.

لقد خلّفت سياسة الجمهوريين، وخاصة في عهد بوش الابن، عدداً من قوانين الإعفاءات الضريبية المختلفة وتراكماً غير مسبوق للمديونية، في حين كرّست سياسة الديمقراطيين في عهد الرئيس الحالي، (وكان هذا أحد أسباب فوزه الأخير) مفاهيم لتطبيق زيادات ضريبية، وبالذات على ذوي الدخول الكبيرة. وبالتالي ثمة فجوة كبيرة في رؤية الفريقين ينبغي جسرها، وإلا فالمحصلة التي تسمّى حتى الآن بالانحدار المالي أو الهاوية المالية ستأكل كثيراً من الأخضر واليابس، لا في الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل وفي الاقتصاد العالمي أيضاً، تُعيدنا إلى أجواء الحرائق الكبرى في ثلاثينيات القرن الفائت.

 

ماهي بلغة الأرقام عواقب عدم التوصل إلى اتفاق؟

الجواب: نفقات الدولة الفيدرالية للسنة المالية ،2013 (التي بدأت فعلياً في الأول من تشرين الأول الفائت) ستُخفض تلقائياً بمقدار 109 مليارات دولار، وستزداد الضرائب بنسبة 20 بالمئة على الجميع، الأمر الذي سيتسبب بنفقات إضافية بقيمة ألفي دولار في السنة لكلّ عائلة من عائلات الطبقة الوسطى (الفقيرة ضمناً). الأخطر حين تنعكس هذه الزيادة الحادة في الضرائب على استهلاك الأمريكيين وتؤدي بالتزامن مع التخفيضات الكبرى في النفقات العامة إلى انهيار الطلب الداخلي، ولن يكون في اليد في مثل هذه الحالة، كما يقول بن برنانكي، أيّة وسائل لمنع الاقتصاد الأمريكي من العودة إلى الانكماش، وهو الذي لم يتعافَ بعد من الانكماش السابق الذي استمر من كانون الأول 2007 إلى حزيران 2009.

بلغة الأرقام أيضاً سنشهد، حسب مكتب الموازنة في الكونغرس، تراجعَ إجماليِّ الناتج المحلي الأمريكي في 2013 بنسبة 5,0 بالمئة وارتفاع البطالة إلى 1,9 بالمئة، في مقابل 9,7 بالمئة للسنة الحالية. أمّا السيناريو الأسوأ فيتمثّل في ارتفاع البطالة إلى ما فوق 15 بالمئة، وعدم قدرة أصحاب القروض العقارية على تسديد أقساطهم، وبالتالي وقوع انهيار مالي يبدأ بإعلان مئات المصارف إفلاسها. الجدير بالإشارة هنا  هو تزامن وترابط مشهد الهاوية المالية الأمريكية مع مشاهد كلّ من تدهور الوضع المالي والاقتصادي في أوربا، والتباطؤ الواضح في نمو الاقتصاد الصيني، والارتفاع الجديد في أسعار النفط، بسبب التوتر المتصاعد في الشرق الأوسط، إذ لا يُستبعد حينئذ التراجع الإجمالي للناتج المحلي الأمريكي بمعدل 7,1 بالمئة في 2013.  

أخيراً، ولعلّه أولاً، ماهي إمكانية التوصل إلى تفاهم بين (الكونغرس والبيت الأبيض)؟

الجواب: لا وسيلة أمامهما لكي يتفادَوْا الهاوية المالية سوى استمرار التفاوض لتحقيق تسوية ما، تكون ترقيعاً إضافياً في المُرقّع أصلاً، ولا تدلّ بتاتاً على وجود رؤية أو قواسم إصلاحية مشتركة!..

العدد 1105 - 01/5/2024