كاميرا غير خفيّة!..

في أقصى الشارع يجلس عازف ويترنم بكلمات شجية، بضعة من غناء دافئ علّه يستعيد زمناً ما فيسعد السامعين، ولو كانوا عابرين لا يلوون على شيء، ربما كانوا المعذبون في الأرض أو الحالمون بها في دنيا الله الواسعة، يستمر الرجل، وهنا ليس من المهم من هو ومن الذي جاء به إلى هذا الركن بالذات في الغناء والعزف معاً، غير آبه بمن لا يلتفت إليه ولو ببسمة عابرة، وعلى يمينه صندوق كتبت عليه حروفٌ كبيرةٌ (كلّك زوق)!

من القارئ؟

يستصرخ الكتاب قارئه الهارب إلى تفاصيل لا تشبه إلا ذاتها، حسناً إن لم تقرأني سوف أقرؤك! يهرب القارئ ويتقلب في طرقه المختلفة لكأنه يبحث في أيامه المتقاطعة عن حروف يركبها ليظفر بمعنى طيف معنى وما شابه ذلك، يقبض الكتاب عليه أخيراً قائلاً سوف أقرؤك كلمة كلمة وسطراً سطراً ولن تفلت من تأويلي أنا، فأنا بدوري قارئ آخر.

بائعة الورد مرة أخرى

كم حفظ الشارع خطاً ناعمة حافية، صاحبتها ذات صوت رقيق عذب ينادي كما أغنية محفوظة في الذاكرة (مين يشتري الورد مني) لكنه دون غناء، بل توسّل خفيّ يلاحق المارة يمنة وشمالاً علّهم يجودون ببضعة قروش، ربما تملأ بوجبة عشاء متواضعة أمعاء تنتظر هناك حيث أكوام اللحم التي تمر الحياة بجانبها متسائلة ترى أين رأيت هؤلاء لآخر مرة؟!

ثلاثة نقاد وجميلة

وهم يصعدون  كانوا ثلاثةٌ- الطريق إلى أعلى انتظاراً لركوب حافلةً تقلهم إلى منازلهم عبرت الطريق امرأة جميلة على عجل، وقتئذ غذت خطاها في الطريق ذاته، قال أحدهم إنها قصيدة مكتملة، فيما قال الآخر إن استغلقت علينا فهل نفككها، فيما الثالث ظل صامتاً ما بين الشعر والتفكيك وما جره حوار المدارس من وجع في الرأس لم ينته حتى اللحظة.

كاميرا….

لم تعد تجرؤ على الاختباء وأن تستعيد دور المتلصص الذكي على من يُوقع بهم من أجل ضحكة عابرة تشيع في الجو موجات من الضحك، ملت الاختباء وراء الجدران السميكة أو الستائر الفارهة، ومل حاملوها اقتناص لحظات البشر والإيقاع بهم وجعلهم في حالة ارتباك وقلق وردود أفعال لا يعلم أحد نهايتها،أصبحت عينها طليقة بما يكفي وعلى اتساع الحدث ويومياته، أصبحت أمام الجميع شاهدةً غير محايدة لتنطق بلحظاتهم التي تمر أمام بؤرتها الواجفة، أصبح الكل إذن في مرماها المجدي لتختزن صورهم وتسرد بطريقتها أحوالهم وظمأ أرواحهم ويقظة قلوبهم وآمالهم التي يتوسلونها، وربما تقتنص فرحهم العابر، لكنهم هم من يوقعون بها ويبثون في كونها الجامد مشاعر لا تعرفها ويرجونها ألا تغادر موقعها ولو كان منكشفاً، لأنهم أرادوا تأريخاً لأرواحهم التعبة وتوقيعاً لما يمر بهم مما أصبحوا لا يعجزون عن تفسيره، وربما يرغبون بنسيانه، وبتجاوزه، حالمين بغد آخر، لا تستعجل شمسه بالمغيب، ولا تنطفئ نهاراته، فمن يخيط الأمل، سيرتق ألم الروح، معادلة شاقة صاغت قدر الروائي، الذي يقبض على أوراقه كما نهاراته، ويترّجل عن برجٍ لم يعد عاجيّاً، ليطوف في زحام الوقت والناس والأسئلة ويرجع مساء لأوراقه… كسؤال لا ينتهي، أو كحلم يرغب من يشاهده بعينه المجرّدة فحسب!

من قصة (عالم ليس لنا)

كتب الأديب الراحل غسان كنفاني: (كانت هناك قطة بيضاء صغيرة، تحاول اجتياز الشارع إلا أن بركة من الماء كانت تحول بينها وبين الوصول إلى الرصيف، فرشت ساعديها وطوت ساقيها، فمس بطنها الأرض وأخذت تهز جسدها بارتقاب مهتاج، وتضرب الأرض المبتلة بذيلها.

وفي اللحظة التالية قامت بقفزة واسعة، إلا أنها لم تستطع أن تجتاز البركة، فسقطت في ربعها الأخير، وأخذت تضرب الماء بأطرافها محاولة الخلاص).

العدد 1107 - 22/5/2024