أحلام

في الأيام الأخيرة قفز إلى صفحات الجرائد خبران يبدوان غير مرتبطين للوهلة الأولى: انخفض معدّل انتساب عمّال الولايات المتحدة إلى النقابات إلى أدنى مستوياته في قرن تقريباً، وفيما يراه البعض خطوة كبيرة نحو تحقيق المساواة بين الجنسين، يُسمح الآن للنساء العسكريّات المشاركة في خطوط القتال الأماميّة.

تقلق النقابات من أرقام الانخراط فيها (فيما يرحّب بها أصحاب الشركات والقوى المناهضة للعمل)، إذ يرى البعض أنّها تصل إلى حافة الانقراض بوصفها قوّة اجتماعيّة في المجالات الاقتصادية والسياسيّة. وقد ذكر مكتب إحصاءات العمل الأمريكي أنّ إجمالي معدّل الانتساب للنقابات (في القطاع الخاص والعام) انخفض إلى 400 ألف نقابي خلال عام ،2012 على الرغم من ازدياد القوّة العاملة المُستخدمة مليونين و400 ألف. وبذلك تكون نسبة الانتساب للنقابات قد انخفضت إلى 3,11% فقط. وهذا أدنى مستوى تبلغه في 97 سنة.

والأسوأ من ذلك، أنّ معدّل الانتساب للنقابات في القطاع الخاص انخفض إلى 6,6% فقط العام الماضي (من نسبة 9,6% المنخفضة أساساً في عام 2011. ومما يجدر ذكره أنّه قبل نصف قرن كان 35% من القطاع الخاص منتسبين للنقابات.

إنّ هجمة الشركات (المدعومة من الحكومة أحياناً) التي تُشنّ على النقابات منذ عهد رونالد ريغان، جنباً إلى جنب مع أحدث هجوم على النقابات العامة برعاية حكومات جمهوريّة وأصحاب المليارات المحافظين في عدّة ولايات (ويسكونسن، إنديانا، أوهايو، ميتشغان وغيرها)، قد أتت نتائجها. 

ويشير العديد من المحلّلين البارزين إلى أنّ تأثير هذا الضعف النقابي يساعد على تفسير لا الركود وحتّى الحدّ من دخل العاملين على مدى العقود الماضية وحسب، بل وربّما أكثر ظاهرة تحدّد ذلك البلد (وجزءاً كبيراً من العالم) اليوم: تركيز الثروة الكبير في الواحد في المئة الأغنى (والذي يحتكر الآن ما يقارب ال 25% من الدخل القومي ويسيطر على نصف الثروة الوطنية تقريباً). ويبيّن جوزيف ستيغليتز الاقتصادي الحائز جائزة نوبل أنّ هذا التفاوت يدمّر الحلم الأمريكي.

وبينما يتطاير هذا الحلم، وفي إعلان قُدّم على أنّه إنجاز كبير في المساواة، رفعت إدارة أوباما الحظر على مشاركة النساء العسكريات في الجيش في خطوط القتال الأمامية في أرض المعركة. ومن الآن، ستكون لدى النساء فرصة مواجهة »العدو« والدفاع عن »الحريّة« في ساحات القتال، وحتّى في العمليات السرّية. وقد احتفل البعض بذلك معتبرين إياه إنجازاً كبيراً في»زالحقوق المدنية« للنساء. وقال آخرون إنّه حلم صار حقيقة.

ذلك كلّه في صفوف عسكريّة تعرّضت فيها النساء لاعتداءات جنسية تزداد يوماً عن يوم. ويسجّل آخر تقرير للبنتاغون حول هذا الموضوع أنّ واحدة من كلّ ثلاث نساء عسكريات تعرّضت للاعتداء الجنسي في صفوف القوّات النظاميّة: أي 52 امرأة تقريباً في اليوم (واضح أنّ ذلك ليس ظاهرة في الحياة العسكرية. فقد ذكرت الصحافية ريبيكا سولنيت أنّه يجري في الولايات المتحدة، وسطياً، الإبلاغ عن اغتصاب جنسي لامرأة كلّ 2,6 دقائق، وأنّ واحدة من كلّ خمس نساء تتعرّض لاغتصاب في حياتها).

إنّ هذين الخبرين اللذين جرى تناولهما كموضوعين لا تربطهما أيّ علاقة، يقتسمان رابطاً عميقاً في الواقع. وقد أعلنت القوّات المسلّحة الأمريكيّة (وعددها اليوم مليون و388 ألف عنصر، وهي الثانية عدداً في العالم بعد الصين) كقوّة »تطوّعية تماماً« بعد حرب فيتنام. وألغيت الخدمة العسكرية الإجبارية. وأعضاء الصفوف النظامية الآن هم مواطنون قرّروا الانضمام أو جرى تجنيدهم بطريقة تطوّعية. يُدعى هؤلاء المواطنون للخدمة العسكرية مقابل كلّ أنواع الفوائد: أولاً، عمل مدفوع الأجر وتدريب وتعليم متخصصّ مجانيان، رعاية صحيّة مجانية، سكن مجاني، الحصول على قروض، وصولاً إلى الجنسية لبعض المهاجرين، أي تقريباً كلّ ما لا يُضمن للمرء في المجتمع المدني.

إنّ من ينضمّون إلى صفوف الجيش، من نساء ورجال، في معظمهم من تلك الطبقة الوسطى العاملة التي ليست أكبر ضحية للأزمة الاقتصادية الحالية فقط، بل وأيضاً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية في العقود الثلاثة الأخيرة التي ولدّت أكبر تفاوت منذ ما قبل الكساد الكبير، ما ترافق بفقدان الوظائف العالية الأجور ودوام العمالة والمعاشات التقاعدية والإجازات المدفوعة الأجر والتأمينات الصحيّة التي استُبدل بها الآن وظائف بالحد الأدنى للأجور بفوائد شبه معدومة، أي من غير كلّ المكاسب التي حققتها النقابات في جزء كبير منها وأدّى إلى تشكّل تلك »الطبقة الوسطى« الواسعة التي ألّفها العمّال في فترة ما بعد الحرب.

ما يحمل على التساؤل بشأن هؤلاء المجنّدين، واليوم بشأن النساء اللواتي سيحصلن على ميزة الوقوف في الخنادق: عمّ يدافعون؟ يعود الجنود من الحروب (أو من مراكز في 150 دولة تقريباً) إلى بلد يراكم فيه الأغنياء مزيداً من الثروة، فيما ينقص ما لدى الآخرين، إلى بلد ضاعت فيه ملايين فرص العمل والمنازل بسبب الاحتيال المالي. ويصلون إلى حرب ضد العمّال والمهاجرين والنساء. أهذا ما يدعونه »الحرية« التي ذهبوا للدفاع عنها؟

ذلك كلّه أمام خطاب رسمي عن المساواة والأمن والحقوق المدنية وحقوق الإنسان. أحياناً يشبه ذلك كلّه فضيحة الساعة الكبرى: فالنشيد الوطني الذي ردّدته المغنيّة الشهيرة بيونسي مع فرقة المارينز في تنصيب الرئيس كان تظاهراً – لا غنّت ولا عزفوا-: بُثّ تسجيل. فإن لم يكن ذلك حقيقياً، فهل حقيقيّة هي بقيّة القصة الرسمية للحلم الأمريكي؟

ربّما هي محاولة لتبديل حلم بآخر.

 

عن La Jornada  المكسيكيّة

العدد 1105 - 01/5/2024