السُّعار الأردوغاني

أفصح الرئيس التركي أردوغان، في الطائرة التي أقلته من كابول عائداً إلى أنقرة منذ أيام، عن حقيقة موقف حكومته بأوضح درجة من درجات الصراحة قائلاً: (لقد تقدمت تركيا بأربع طلبات للتحالف الدولي ضد (داعش) بشأن ما يجري في سورية: طلبنا إعلان منطقة حظر جوي، وإقامة منطقة آمنة، وتدريب السوريين وتزويدهم بالسلاح، وشن عملية ضد النظام السوري نفسه)، مضيفاً: (ودون تحقيق هذه المطالب لا يمكن أن نشارك في أية عمليات).

نعم، إنها أربعة شروط، لا أكثر ولا أقل، ينبغي على أصدقائه، بل سادته في واشنطن تلبيتها لكي يتسنى له المساهمة في عمليات القصف الجوي على مواقع (داعشية) في سورية والعراق، ذلك لأن الجميع يعلمون أن تركيا ليست بعيدة عن (داعش) نشوءاً وفكراً وممارسة، وهذا ما يفسر لماذا تظهر تردداً خادعاً في هذه المساهمة! في الوقت الذي يعرف القاصي والداني طبيعة علاقة التابع والمتبوع التي تحكم علاقات تركيا بالولايات المتحدة.

إن الولايات المتحدة الأمريكية التي تمر بالطور الأول من أطوار حملتها المنظمة في إطار (التحالف الدولي) وهو القصف الجوي على مواقع (داعش)، الذي لم يكن فاعلاً باعتراف القادة العسكريين الأمريكيين أنفسهم، وتريد البدء للطور الثاني، وهو غزو بري يجري على الأراضي العراقية والسورية، ليست أشكاله معلنة حتى الآن، وإن كانت بعض تجلياته قد أصبحت معروفة وتتمثل بتدريب مرتزقة جدد تحت اسم (المعارضة المعتدلة)..

إن هذا التوجه الأمريكي المعلن الذي لا يتمتع بتأييد أوربي واسع، يحتاج إلى أن تساهم فيه تركيا مساهمة فعالة بوصفها تتمتع بأفضليات جغرافية ولوجستية في عملية من هذا النوع.

أما تركيا التي تعي أهمية هذه الأفضليات التي تتمتع بها، فهي تريد استثمارها واللعب بها، بصفتها ورقة ضاغطة ورابحة وتحقق لها إمكانات إضافية في تحقيق مشروعها الخاص بها، الذي يتفق مع المخطط الأمريكي بشكل عام، ولكنه يختلف معه من جوانب مختلفة، أهمها الرغبة الأمريكية في احتضان القضية الكردية داخل تركيا وخارجها، مقابل معارضة تركية واضحة لأي تدخل غير تركي في هذه المسألة.. أضف إلى ذلك أن أمريكا لا تستطيع إقناع حلفائها في (التحالف الدولي) أو خارجه بأولوية ضرب سورية وإسقاط نظامها ودولتها دون قرار دولي، بل دون مسوغ مقبول من أحد.

وهناك مكامن خلافات أخرى أمريكية- تركية، تتجلى في أن الأتراك لا يرون إلا مصالحهم المباشرة والضيقة، بينما تنظر أمريكا إلى أي قضية بمنظار مصالحها الدولية، ومن زاوية علاقاتها مع باقي دول العالم، فهل تستطيع الإدارة الأمريكية الآن مثلاً أن تغض الطرف عن محادثات الملف النووي الإيراني الذي تستميت لإنجازه مع إيران، اللاعب الهام في الشرق الأوسط والعالم، وهي أحد دعائم محور المقاوم المناهض للهيمنة الأمريكية؟ وهل تستطيع أمريكا أن تدير ظهرها للاتحاد الروسي الذي تتصاعد قوته العالمية يوماً بعد يوم، أو تتجاهل دعمه الكامل لسورية ولكل حلقات محور المقاومة؟ وهل يمكن لعاقل واحد، حتى في أمريكا، أن يتجاهل قوة سورية وصمودها الباسل طيلة أربع سنوات في وجه عدوان خارجي إجرامي قلّ نظيره، ومدى المقاومة التي ستبديها في حال تنفيذ خطط عدوانية جديدة ضدها، سواء أتت من أمريكا أو تركيا أومن داعش؟

بالطبع إن ذلك مستحيل، وبالتالي فقد يستمر الضغط الأمريكي على تركيا لسحب شروطها ومطالبها، أو أن يتم إرضاء النزعة الأردوغانية العثمانية الأصل، بتقديم بعض التنازلات لها، ولن تكون على الغالب، إلا على حساب سورية والشعب الكردي.

ولكن الأمور لا تسير دائماً كما يشتهي (المعلم) الأمريكي وأتباعه في تركيا وبعض أوربا ودول الخليج العربي، فالجماهير الكردية في عين العرب التي سقطت من حسابه، قد دخلت الآن في صلب المعادلة، وها هي ذي تسطر ملاحم بطولية في وجه (داعش) الذي جرى التهويل عمداً بقوته، والذي أجبر على سحب مقاتليه قبل أن يتاح له اقتحام عين العرب وذبح أهلها.

الوقائع على الأرض.. واصطدام المطامع التركية بالمصالح والحسابات الدولية والإقليمية، فضلاً عن ردود فعل الداخل التركي.. الظاهرة والمتوقعة، ستجبر أردوغان على تخفيف غلوائه.. وهو يدرك تماماً، مثلما يدرك أسياده أن (لحم السوريين مرّ).. وأن السوريين، الذين يملكون تاريخاً مشرفاً في رفض الاستعمار، يعرفون جيداً كيف يدافعون عن وطنهم وحريتهم!

العدد 1107 - 22/5/2024