سجينات الحاجة المادية…

 ربما يكون التحرر الاقتصادي، والاكتفاء المادي للإنسان، ذكراً كان أم أنثى، يأتي بالترتيب من حيث الأهمية قبل الحالة المعرفية والثقافية والعلمية له، في تحقيق الذات واستقلالها، ذلك الاكتفاء الذي يضع حجر الأساس لتمكينه من تحقيق الاندماج الناجح في المجتمع، والتحرر في شخصيته بشكل عام، بعيداً عن التبعية لأحد. كلنا تابعون رجالاً ونساءً لرب العمل، إن كنا في المؤسسات الوظيفية العامة أو الخاصة، مُقيّدون كل التقييد بالكثير من الأنظمة والقوانين، تماماً كما الأبناء تابعون مادياً لأسرتهم، وكما المرأة غير العاملة تابعة لزوجها، أو ابنها، أو أخيها، أو غيره من أفراد الأسرة.

درجت العادة وخاصة في المجتمع الشرقي، أن يكون الأب أو الأبناء الذكور هم المسؤولين مادياً عن الإناث في الأسرة ضمن البيت الواحد، ونتجت هذه العادة عن شروط وظروف نشأت بسبب الموانع التي توضع في وجه الأنثى، كمنعها أغلب الأحيان من الظهور خارج البيت، ومنعها من مواصلة تحصيلها العلمي، فتبقى بلا مؤهلات دراسية تؤهلها لإمكانية العمل في الوظائف العامة، أو في المهن الخاصة، فتبقى بلا دخل مادي، لتكون دائماً بحاجة إلى من يتولى أمورها، وهذا بالتأكيد انتهاك لحقوق المرأة، واستمرار التسلّط عليها من الزوج والأب وحتى من الإخوة والأبناء، حتى في أبسط حقوقها من الغذاء واللباس والاندماج في المجتمع. وتبقى بعيدة عن الحياة العملية والمهنية والثقافية والعلمية والفنية والنشاطات الاجتماعية بشكل عام، وتبقى المرأة بلا قرار أو رأي أو رغبة خاصة بها، ما دامت بحاجة مادية إلى رب الأسرة الذي يفرض عليها الشروط القاسية، غير مكترث لحاجاتها وحقوقها الإنسانية والشخصية، التي يجب أن تعيش بها.

كل هذا التسلط على المرأة بذريعة أنها ضعيفة من الناحية الجسمانية والفيزيولوجية، وهي التي تحمل شرف العائلة، وقد يكون ظهورها في المجتمع وعملها يخلُّ بقواعد هذا الشرف، كما يدّعون، فلا يُسمح لها بالعمل خارج البيت، وإجبارها أن تبقى ضمن أسواره، كقطعة من أثاثه، وأن تبقى عبارة عن وسيلة للمتعة والإنجاب، والقيام بخدمات الأسرة والبيت، وإقناعها دائماً بأنها بحاجة إلى الرجل الذي يعمل ليكفيها حاجتها المادية ولقمة عيشها، دون النظر إلى حوائجها المعنوية والنفسية والإنسانية لتكون عضواً فعالاً في المجتمع، ويفرض عليها أن تكون سجينة حجابها، وتنفذ حكم إقامة مؤبداً قضبان سجنها المركزي الذي يسمونه بيتاً، رغم أن الأنثى هي بالأصل والدة الذكر وهي أصل وجوده حتماً.

الحاجة المادية للمرأة، وعدم السماح لها بممارسة حياتها الطبيعية في العمل والإنتاج المادي، تجعل المجتمع الذكوري يصدر القوانين والدساتير والتعليمات العرفية، بأن يكون الحق للأب وللزوج وللإخوة وللأبناء أيضاً، أن يكونوا أوصياء على حياتها، وعلى أفكارها وعلى أحلامها وآمالها وعلى رغباتها، واستعبادها واضطهادها، وفرض العقبات والموانع الكثيرة حولها، للحدّ من حقوقها القانونية والاجتماعية، وبما أنها بحاجة مادية إلى الأوصياء عليها من الذكور، فستبقى في وضع استسلام للهيمنة، ما دامت هي لا تستطيع كفاية نفسها مادياً واقتصادياً.

بالتأكيد إن عمل المرأة وحصولها على دخل مادي مستمر، هو العامل الأول والوحيد وصمام الأمان في تحررها الاقتصادي، والخلاص من تبعيتها المادية لأحد، والتحرر من الكثير من القيود التي تعيق حياتها وتعيق مساواتها فعلياً بالرجل من ناحية العمل والاكتفاء الذاتي، لتكون مسؤولة عن حياتها.

في هذا المجال يقول الباحث الاجتماعي العربي إبراهيم الحيدري: (يهيمن النظام البطركي الأبوي على العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تغلب عليها الانتماءات القبلية والطائفية والمحلية، حتى في المجتمعات الديمقراطية، لأن المجتمع الأبوي هو نوع من المجتمعات التقليدية التي تسودها أنماط من القيم والسلوك وأشكال متميزة من التنظيم، بنية نوعية متميزة تتخذ أشكالاً مختلفة من بينها بنية المجتمع الأبوي العربي، الذي هو أكثر ذكورية من غيره من المجتمعات وأشدُّ تقليدية وأكثر محاصرة لشخصية الفرد وثقافته، وترسيخاً لقيمه وأعرافه الاجتماعية التقليدية وتهميشاً للمرأة واستلاباً لشخصيتها، لأنه ذو طابع نوعي وخصوصية وامتداد تاريخي يرتبط بالبيئة الرعوية الصحراوية والقيم والعصبيات القبلية، فمن المعروف أن العالم العربي هو أعظم موطن للبداوة مثلما هو أكثر مناطق العالم تأثراً ومعاناة في الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة).

العدد 1105 - 01/5/2024