أصل البلاء

كان ذلك منذ زمن بعيد..

يحاول جدّي ألاّ يستعيد ذكرى ذلك اليوم، وكلما حاول أحدنا أن يدفعه ليحدثنا عن تفاصيل ما جرى في ذلك اليوم، والذي تسبب في إيقاع أذى كبير في قدرة سمعه، كان يتهرّب بطيّ الحديث، والخوض في حديث غيره.

بدأ الأمر بسؤال بريء، سأل أخي والدي عن سبب ثقل سمع جدّي، إذ كنا نضطر غالباً إلى إعادة ما نلقيه على مسامعه وتكراره بصوت أعلى، أجاب والدي باقتضاب:

ـ طائرة حربية بريطانية كانت تستعرض في سماء عكا، أفلت منها (قازان) دون قصد كما برروا لنا الأمر دمّر بيت جدكم..

ثم أردف باستسلام:

ـ كان جدكم في البيت، لكن حكمة الله كتبت له السلامة بأقل الأضرار، فقد تسبب صوت الانفجار الرهيب بأذى في أذنيه..

هكذا فهمنا الأمر باختصار، وكنا بأشد اللهفة لنستمع من جدّي عن تفاصيل ذلك اليوم، وقد قررنا نحن الأربعة أن نحاصر جدّي، ونرجوه بكل ما نملك من معطيات ليحدثنا عن ذلك.

دخلنا غرفته على غير موعد، كان، كما عادته، يجلس على أريكته المفضلة، بعباءته المشمشية الجميلة، والحطّة البيضاء تزيد وقاره وقاراً، يقرأ في القرآن الكريم..

نظر إلينا مبتسماً، رفع القرآن إلى شفتيه، وقبّله، ثم وضعه جانباً، وتناول سبّحته الزيتونية، وضعها بين راحتيه قليلاً ثم أسكنها في حضنه وقال:

ـ أعرف أنكم متلهفون لمعرفة تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم.!

تبادلنا نظرات مدهوشة، نفتّش عن الواشي بيننا، لكننا أمام لهفتنا للاستماع من جدّي عن تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم، تجاوزنا ذلك وأبدينا حالة الإصغاء..

غامت عيناه، وتقلّصت وجنتاه، وبدا كأنه يقتلع من صور الماضي صورة مؤلمة وعنيفة.. رشف رشفةً من كأس الشاي، وراحت أصابعه تداعب حبّات السبحة، قال بصوت هادئ:

ـ كان ذلك بعيد فكّ إضراب الستة أشهر في عام ،1936 وقد تهيأ لنا في مدن فلسطين وقراها وأريافها أن الأمور عادت للهدوء، رغم قناعتنا بأن الانتداب البريطاني – الذي أعلن مراراً عن رغبته إعلان إنهاء سلطة الانتداب، ما يعني، كما كان فهمنا في كل الأوقات (إعلان استقلال فلسطين) لم يكن غير وقت مستقطع لتهيئة فرص للعصابات الصهيونية للتسلح، ومحاولات لم تتوقف لمنع التسليح على الفلسطينيين بشتى الطرق والوسائل، وكذلك تهيئة الأجواء لتستلم العصابات الصهيونية مواقع جيش الانتداب البريطاني ومراكز الشرطة والقضاء والمؤسسات.

تنهد جدّي.. وتابع يقول:

ـ في ذلك الوقت، زادت قوات الانتداب البريطاني الضغط على الفلسطينيين بكل الوسائل، إلى جانب استعراضٍ للقوة كانت تمارسه على أشكال متنوعة، منها استعراض قواتهم الجويّة، وطائراتهم الحربية الحديثة تصول وتجول في فضاء كل فلسطين.

رفع جدّي ناظريه إلى الأعلى وكأنه يستنهض ذاكرته.. وأردف:

ـ كان الوقت بعد العصر، والحر شديد، عدت من المسجد بعد صلاة العصر، واستلقيت على السرير طلباً للتبرّد، وقليل من الراحة، ويبدو أنني استغرقت في النوم..

أشار إلى السرير في ركن الغرفة وقال:

ـ على سرير يشبه هذا السرير..

سرير عادي، عريض، عليه فراش وثير وأغطية كثيرة، وله أربعة قوائم طويلة من النحاس مهيأة لربط (ناموسية) تذبّ عن النائم الذباب والحشرات.. بدا لنا في ذلك الوقت سريراً يشبه كل الأسرّة..

تابع جدّي وهو يشير بيديه هنا وهناك:

ـ قبالة السرير تقف خزانة ملابس كبيرة وثقيلة وعالية، تشاء المقادير أن يسقط (قازان) من طائرة حربية إنكليزية، وانفجر قريباً جداً من البيت مما تسبب في هدم الدار، لكن مشيئة الله قدّرت ما لم يكن بالحسبان، فقد انقلبت الخزانة على قوائم السرير الأربعة، فشكلت حاجزاً مثالياً بيني أنا النائم على السرير، وبين تساقط حجارة وسقف الدار..

تنهد ثانية بألم وتابع:

ـ كانت جدتكم خارج الدار، وهي تعلم أنني نائم في الدار التي أصبحت دماراً، جاءت تركض، تولول وتضرب على صدرها..

كأننا لاحظنا بريقاً يلتمع في عينيه:

ـ لم تحتمل المسكينة هول المشهد.. تشوّش عقلها، وجنّت..

سكت طويلاً، وأصابعه تلامس حبّات السبحة الزيتونية برفق شديد، ثم قال:

ـ عندما أخرجوني من تحت الأنقاض، ورأيت النور يفرش بياضه على الأرض، ووجوه الناس، أحسست بشعور لم أكن أحسّه أو أدركه من قبل، كأنني أولد من جدّيد، أدركت بأن قوّة الله سبحانه، وحكمته، تعلن أن لا شيء يمكن أن يصل، أو يغيّر، أو يواجه، قدرة الله في خلقه..

استعاد وجهه بريقاً آخر وكأنه عاد لتوّه من رحلة بعيدة وغريبة، نظر في وجوهنا، ثم أردف وهو يتشاغل بالقيام من مجلسه:

ـ إن أيّ دمار ماديّ مهما كان نستطيع أن نعيد بناءه، وتبقى الأرض هي المكان الذي يؤصّل فينا قيم الانتماء، لكن الدمار الحقيقي هو دمار الإرادة، وتدمير الإيمان..

نهض جدّي، يصلح وضع عباءته المشمشية على كتفيه، ونحن نحاول أن نعيش ذلك الحدث الغريب، وقبل أن نخرج من الغرفة، قال:

ـ الجذور الأصيلة هي الأبقى، لأن نبض وجودنا يتماهى مع نبض تراب هذه الأرض، وكلما أخلصنا لهذه الأرض نقترب أكثر من جلال الله سبحانه..

ثم تمتم بصوت خفيض:

ـ بريطانيا هي السبب في كل المصائب التي حلّت في العالم، فإياكم أن تأمنوا جانبها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها!

العدد 1107 - 22/5/2024