في إغلاق شركتَيْ الصرافة.. المركزي يترك الباب الخلفي مفتوحاً

تناقضات قرارات وتوجهات مصرف سورية المركزي، تثير تساؤلات كثيرة، أبرزها على الإطلاق، استمراره في بيع القطع الأجنبي للمواطنين، فيما يحصد نتائج هذا البيع التجار. ومن جهة ثانية إصراره على تسليم الحوالات الخارجية لأصحابها بالليرة. فصاحب الحق في تسلم حوالته، بالدولار على الأغلب، يفقده في شركات تحويل الأموال، والذي يدعي حاجته للقطع الأجنبي يتمكن من شرائه، وفي هذا تجنٍّ واضح، وغبن كبير، يلحق بالناس. هذا التناقض يمكن القياس عليه أيضاً، إزاء إجراءات أخرى يتخذها المركزي، ويحاول عبرها أن يثبت وجوده، بقوة قراراته، ومدى تحكمه بسوق الصرف. وربما في الإجراء الأخير، بإغلاق شركتَيْ الشعار وحول الخليج للصرافة، ما يستدعي التساؤل: من كشف التلاعب؟ ومن أغلق المكتبين؟ مراقبة المركزي ومتابعته وجهوده أم الجهات المختصة؟ في الإجابة عن هذه التساؤلات يمكن تحديد الكثير من مدى نجاح المركزي في ضبط ايقاع السوق، والعمل الجاد للمحافظة على استقرار سعر الصرف، وتقليل هامش التذبذب إلى أبعد حد ممكن، ما يسهم في خلق توازن ينعكس على كل القطاعات، لاسيما أسواق السلع والمنتجات.

منذ عامين ونصف العام، والجدل قائم، حول إشكالية بيع القطع الأجنبي للمواطن، من عدمه، ولم يتوصل القائمون على الشأن النقدي، والفريق الاقتصادي، إلى قرار واضح وصريح، يجيب عن تساؤل بسيط: ماهي أوجه استخدام احتياطي القطع الأجنبي في الأزمة؟ وكان جلياً، أن الأزمة بفصولها المتعددة ستطول، وآفاقها مفتوحة على مالا تحمد عقباه، وبالتالي سيكون الاقتصاد والليرة من أوائل المستهدفين والمتضررين في آن معاً. هذا المعطى لم يُؤخذ بالحسبان، ولم توله الحكومات الثلاث المتعاقبة الأخيرة ما يستحق من اهتمام ورعاية، بدليل القفزات السريعة التي كان يشهدها سعر الصرف بشكل جنوني، وتركه يتصاعد قبل أن تقرر الحكومة السبل التدخلية الواجب اتخاذها. وكان من الواضح، أن سعر الصرف سيتصاعد أكثر فأكثر، نظراً لظهور طبقة جديدة من المتاجرين بالقطع الأجنبي، جنّدت مجموعات من الفقراء والمحتاجين والذين فقدوا فرص عملهم وأعيتهم الظروف، لشراء قطع أجنبي على أسمائهم، مقابل ربح مالي زهيد، لايكفي الكفاف، ليحصد التجار الكبار والمتلاعبون بأسعار الصرف ثروات طائلة. هذا الواقع لم يكن القائمون على الشأن النقدي وأسعار الصرف، يعدونه مهماً، وقللوا من مدى آثاره السلبية، ما يثير التساؤلات أيضاً حول موقف هؤلاء الذين كان يجب أن يكونوا أكثر قدرة على استشراف المستقبل القريب الذي ينتظر سعر الصرف؟

ما جرى الأسبوع الماضي، وقبله بفترة من توقيف صاحب شركة صرافة، ومن ثم إدانته مع صاحب شركة أخرى، شكل صدمة بشقين: الأوَّل لكل الذين حذروا منذ بداية الأزمة من خطورة ترك أسعار الصرف محكومة بيد شركات صرافة بعينها، ومتلاعبين معروفين من حيتان وأسياد السوق السوداء، والصدمة هنا كانت منذ انطلاق المصرف المركزي بعملية بيع القطع عبر مزادات لشركات الصرافة، والتنبيه إلى عدم جدوى هذه الطريقة على المدى البعيد. والشق الثاني، لجميع الناس الذين دفعهم واجبهم إلى دعم الليرة، وإيداع مدخراتهم بالمصارف، لتلحق بهم خسارة كبيرة نتيجة استمرار فقدان قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية. بينما ترك المصرف المركزي كل المتاجرين يسرحون ويمرحون في السوق. والحالة الثانية ساهمت بفقدان ثقة شريحة كبيرة من الناس بالمصرف المركزي وإجراءاته، رغم أنها كانت على استعداد لدعم الليرة بأي شكل من الأشكال. ولايمكن الآن ردم الفجوة بينهما بسهولة أو ببساطة. والقضية تجاوزت حدود الانطباع النمطي، إلى مرحلة فقدان جزء من قيمة المدخرات، وتحقق الخسارة، خاصة أن تاريخ تراجع أسعار الصرف الناجم عن الأزمات، لا يبشر كثيراً، بإمكان استعادة أسعار الصرف السابقة بسهولة، تجربة ثمانينيات القرن الماضي أنموذجاً، إضافة إلى نماذج أخرى في البلدان المجاورة: لبنان والعراق.

إغلاق شركتي صرافة، وبث اعترافات العاملين فيهما أمر جيد، ولكن الأهم من كل ذلك، والذي يشكل معياراً يعيد الثقة في أحد أوجهها، يتطلب أن يعترف أيضاً، صاحبا هاتين الشركتين، بممارستهما للتلاعب، وبالتالي فضحهما للشركاء الذين كانوا يتغاضون عن مخالفتهما للأنظمة، والشبكات التي سهلت لهما القيام بعملهما المجافي للقانون. أما الاكتفاء باعترافات موظفين صغار، منفذين للأوامر فقط، فهذا لايكفي، ولايعدو أكثر من تهدئة النفوس. وذلك استناداً إلى القاعدة المعروفة (شطف الدرج يتم من الأعلى إلى الأسفل)، هذا إذا أردنا تنظيف سوق الصرف من المتلاعبين والفاسدين، وعدم السماح لكل من ساهم في رفع أسعار الصرف، وصب الزيت على النار، بالإفلات من العقاب، و عدم ترك الباب الخلفي أو النوافذ الجانبية مفتوحة لإزالة الشمع الأحمر عن بابي الشركتين المخالفتين، وختم شركات أبواب أخرى مخالفة به أيضاً. إنه الوقت المناسب للمكاشفة، وربما للتعامل بشفافية مطلقة، لمرة واحدة على الأقل، إزاء قضية وطنية بامتياز.

العدد 1107 - 22/5/2024