وجع الغربة

نادراً ما كان جدّي لأبي يزورنا في مدينة يافا، فنحن، وإن كنّا من أصول عكّاوية، إلا أن إقامتنا، ومكان ولادتنا نحن الأبناء، كانا في مدينة يافا، وفي حيّ (المنشيّة) تحديداً القريب من ساحل بحر يافا.. كما أن مكتب والدي (المحامي) يقع في شارع إسكندر عوض وسط مدينة يافا منذ عام 1926 وكان والدي حريصاً جداً على تسجيل الوقوعات والأحداث الخاصة والعامّة وتوثيقها، وتدوين مذكراته اليومية التي واظب على كتابتها منذ عام 1924 حتى عام 1980 قبل عامين من وفاته – رحمه الله-.. ما أعتبره الذاكرة المدوّنة الأكثر صدقاً ووضوحاً وأصالة.

الغريب بل والطريف أنّ زيارات جدّي لنا في يافا خلال سنوات طويلة، على ما أذكر، لم تتعدَّ ثلاث أو أربع مرات، وفي كل مرة كان الدافع وراء زيارته سبباً، يعتبره جدّي ضرورياً ومهماً، بل وواجباً..

عندما كان والدي معتقلاً، بأمر من (الميجر هارنجتون) الحاكم العسكري ونائب المندوب السامي البريطاني في يافا، بتهمة توجيه والدي أكثر من مرة انتقادات وصلت إلى درجة إهانات علنية للقضاة الإنكليز، والطريقة الانتقائية المزاجية في توقيع أحكام جائرة عندما يتعلّق الأمر بالفلسطيني العربي، والتساهل الواضح عندما يتعلّق الأمر باليهودي. وكان والدي – وقد يكون هذا هو عين السبب في اعتقاله- يتصدى للدفاع عن الثوار من المتهمين الفلسطينيين العرب في قضايا وطنية، وغالباً تطوّعاً، وعلى خلفية الاشتباه بأنه واحد من قادة الثورة في يافا..

في ذلك الوقت العصيب على أسرتنا (أمي ونحن الأطفال) زارنا جدّي ليطمئن على أحوالنا، ويقف إلى جانبنا في تلك المحنة..

ولست أذكر بالتحديد الأسباب الأخرى التي كانت وراء زيارات جدّي النادرة.

لكننا جميعاً كنا ندرك في كل مرة، أن زيارات جدّي لنا كانت قلقة، وقصيرة، وخاطفة، وعندما تحين ساعة عودته إلى عكا، يعود وجهه يطفح بالبشر والحيوية، وأدركنا مع الوقت ملامح تلك العلاقة التي تكاد تشكّل بين جدّي وعكا، كياناً واحداً لا يمكن الفصل بينهما.

عكا.. تلك المدينة التي عايشت أحداثاً تاريخية واجتماعية دقيقة على مدى التاريخ، صمدت، وأخرجت من رحمها – كما كان يردد جدّي في كل مناسبة – أقواماً ورجالات طبعوا على جباههم تراب عكا وهو يحمل تاريخها وأصالتها، ويزيّن فضاءها وبحرها، جبالها ووديانها، قراها وماءها وكل معلم أثري تاريخيّ ودينيّ فيها، بمصابيح من فخر وأصالة، ما يجعلنا أعزاء بالانتماء إليها.

بعد ثلاثة أيام خرج والدي من المعتقل، مقيّداً بشروط صعبة تفرض عليه الحضور شخصياً ثلاث مرات يومياً والتوقيع أمام رئيس قسم شرطة المنشية، لإثبات حضوره.

عندئذ قرر جدّي، رغم إلحاحنا، العودة إلى عكا..

ارتدى (الساكو)،1 واعتمر طربوشه، وحمل أغراضه القليلة والسعادة بادية على وجهه، ودّعنا، وسافر عائداً إلى عكا..

كان جدّي – يرحمه الله – رجلاً رقيقاً وصلباً في آن، وأعترف، وقد يكون انطباعي متأثراً بعاطفة تعلقي وحبي الكبير لجدّي، لكنه انطباع حقيقي، ما زلت أستقي منه ومن مواقف جدّي وحكاياته وتصرفاته تلك القيم النبيلة التي أصبحت نادرة في أيامنا هذه..

كان رجلاً بكل ما تحمل الرجولة من قيمة ومعنى، حكيماً عطوفاً أميناً مستقيماً ووفيّاً، متديّناً، وملتزماً، يحمل قي قلبه إيماناً راسخاً بتعاليم دين الإسلام أضاءت أمامه تلك السبل والصفات التي تحلى بها.

وكان قادراً على التأقلم والانصهار والتفاعل مع كلّ موقف، وكلّ حالة يتعرّض لها في مسيرة حياته الخاصّة والعامّة..

نستمع إلى حكاياته وقصصه بشغف، ونتعلّم منه في كل يوم حكمة جدّيدة، ما أعاننا على الصبر، وتحمّل كلّ ما مرّ علينا، فيما بعد، من معاناة ومشاكل في مسيرة حياتنا بل وتجاوزه.

كنا جميعاً نتلهّف ونتطلع دائماً لزيارته في مدينة عكا، يشدّنا إلى ذلك، حرص والدي ووالدتي على ترتيب زيارات سنوية ثابتة لعكا، (في عيدي الفطر والأضحى والعطل المدرسية الطويلة) وزيارات أخرى تخضع لظروف معيّنة، وغالباً ما كان والدي يعود إلى يافا لمواصله عمله، ويتركنا في عكا بين بيت جدّي لأبي الكائن داخل أسوار عكا القديمة، إلى جانب جامع الجزار، وبيوت أعمامي في المحور ذاته، وبين بيت جدّي لأمي الكائن في حيّ الرشيدية إلى جانب المستشفى الوطني، وبيت خالتي القريب من محطة القطار الرئيسة في عكا.

جلس على أريكته المفضّلة، يمسح على لحيته القصيرة بيده، وينظر في وجوهنا يستطلع صدى دهشتنا وسؤالنا عن ذلك الانصهار وحالة العشق بينه وبين عكا.. قال:

 نعم.. وراء أسوار عكا غربة حقيقية تقتحم مشاعري ومشاعر العكاويين، عكا هي الوطن، التاريخ والتراث والذاكرة، إنها الفضاء الذي نسج في صدورنا خيوط التوحّد، إنها حجارة الدور، وتراب المكان، والعبق الذي لا يمكن أن يكون أو يوجد إلا في عكا..

ابتسم ابتسامة كبيرة وقال:

 إذا فرضت الظروف على أيّ عكّاوي الخروج من عكا، فالقسم الصادق الذي يقسم به في أشد الحالات تعقيداً هو: (وحياة غربتي.!).

العدد 1107 - 22/5/2024