حول الأزمة المالية الأمريكية وتداعياتها على المنطقة: ندوة أقامتها منظمة حلب للحزب الشيوعي السوري الموحد

مع تصاعد الأزمة الحالية للنظام الرأسمالي بشكله الإمبريالي المعولم، يعود الاعتبار من جديد للفكر الماركسي، بعد أن توارى عن الساحة الثقافية والسياسية العالمية إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، عاد ليؤكد صحة تحليله لتناقضات هذا النظام، وأسباب أزماته.

 يقول لينين: (إن تطور الرأسمالية قد بلغ حداً سيتقوض معه الإنتاج، وستغدو الأرباح الرئيسية من نصيب (عباقرة) التلاعبات المالية)، وليس هناك أدق من هذا التحليل الذي قيل منذ قرابة المئة عام، ليعبر عن جوهر الأزمة الحالية للنظام الرأسمالي العالمي.

ماهي طبيعة هذه الأزمة التاريخية؟ ماهي جذوررها؟ ما هي الحلول المطروحة؟ ماهي آفاق مستقبل هذا النظام؟

طبيعة السوق العالمية في عصر العولمة

من النظرة الأولى إليها نلاحظ أن الترابط بين الأسواق المالية العالمية يفوق الترابط بين الاقتصادات المنتجة لهذه الأسواق، فحركة الرساميل أخذت تنتقل بين مختلف أنحاء العالم في شبكة متداخلة ارتبطت فيها المصالح واندمجت فيها الحدود الوطنية، وأصبح الجميع مسؤولين بمعنى أنهم منفعلين ومؤثرين ومتأثرين في آن واحد، لذا كان لاندلاع الأزمة في الأسواق الأمريكية أثر كبير على باقي الأسواق العالمية.

كما نلاحظ أنه تم إضعاف الدور الريادي للاقتصاد المنتج، وحلّ مكانه الاقتصاد المالي الخدمي ونقصد أسواق الأوراق المالية التي تحولت في السنوات العشرين الأخيرة إلى قائد للاقتصاد العالمي، وسيطرت على آلية صنع القرار وأبعدت دور الاقتصاد الحقيقي المنتج إلى الدرجة الثانية! ولقد شهدت الأسواق العالمية العديد من التحولات في بناها، وأعيدت هيكلة العديد منها، بتصفية العديد من الصناعات وتحويل قيمها إلى أسواق المضاربة المالية.

الخلفيات الفكرية للاقتصاد الليبرالي الجديد

منذ دخول اليمين في حكومة رونالد ريغان، اندفعت السياسات الأمريكية باتجاه تحرير التجارة العالمية، وأبعدت القيود والرقابة عن تداول وحركة الرساميل ضمن فكرة قدسية التجارة الحرة وآليات السوق الساحرة، وذلك بدعم من قوى المصالح المالية وبضغط من مفكريهم الاقتصاديين معتمدين على مقولة الاقتصادي البريطاني ادم سميث (دعه يعمل دعه يمر)، فبرأيهم أن الأسواق تعيد تنظيم نفسها تلقائياً بفعل اليد الخفية لقانون العرض والطلب الذي يحدد سعر البضائع في عالم المنافسة الحرة ليبقى الأصلح والأقوى.

ومع عودة هذا اليمين بحلّته البوشية الجديدة، استمرت العملية قوة وتأثيراً تحولت فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى قوة مالية ضخمة تسيطر على معظم الأسواق المالية العالمية، وتصنع السياسات المالية والائتمانية وتُصدر برامجها مستفيدة من ربط الأسواق العالمية بشبكة الإنترنت العالمية العملاقة، مع فرض حقوق الإشراف والمراقبة على مجمل العمليات والتحويلات المالية في أنحاء العالم كافة، وفرض شروط السويفت على كل عمليات التحويل المالية بالدولار الأمريكي، متخذة من أحداث أيلول 2001 ومحاربة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله حول العالم حجةً لمراقبة جميع التحويلات المالية، وفرضت في الوقت نفسه على الاتحاد الأوربي صيغة مشابهة للرقابة سميت بشاشة اليورو كلير. وأصبحت جميع التعاملات المالية العالمية تحت القبضة والتهم دائماً جاهزة مهددةً بتجميد الأرصدة وبالعقوبات والملاحقة القانونية، وقامت فعلاً بتجميد العديد من الحسابات لأشخاص ومؤسسات ودول، وذلك إضافة إلى الكثير من السياسات غير المعلنة التي تمارس الضغوط الخفية على الدول والمنظمات والتجمعات المالية.

 وفي الوقت نفسه تُركت آليات الفساد الداخلية في السوق الأمريكية تعمل دون رقابة ودون التقيد بشروط الائتمان المعروفة، إلى أن تفجرت الأزمة في عقر دارها، ومن وول ستريت حصراً انتقلت الأزمة كما أسلفنا إلى القطاعات العالمية الأخرى. جاءت هذه الأزمة بتلازم سلبي كبير: وهو انخفاض مساهمة الناتج الأمريكي في الإنتاج العالمي الحقيقي، فالولايات المتحدة تنتج 22% من الناتج العالمي لكنها تستهلك مايزيد على 40% منه. وعليه فإن القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد العالمي شهدت اضطهاداً وسيطرة من صانعي الأسواق المالية بتحديدهم سعر البيع والشراء في أسواق المضاربة، وليس  بالسعر الناتج عن العرض والطلب كما يدعون، وأكبر مثال على ذلك وصول برميل النفط إلى سعر قياسي وصل بالمتوسط إلى 150 دولاراً، وكان لابد من انفجار هذه الفقاعة ابتداء من الأسواق المالية لتتدحرج إلى باقي مكونات الاقتصاد العالمي المرتبط به.

وقد رافق ذلك تطور كبير في علم الاتصالات والحاسبات، وهكذا ظهر نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر اندماجاً وتزايداً في العلاقات الاقتصادية بين المجتمعات المختلفة، مع تزايد شاسع للفروق بين مستويات المعيشة في الدول الغنية والدول الفقيرة، وأخذت الشركات تدفع الحكومات باتجاه العولمة الاقتصادية التي بدأت تفقد هويتها الوطنية قافزةً فوق الحدود الدولية، يدفعها إلى ذلك سهولة الحركة خارج دولها، إضافة إلى عوامل متعددة أخرى منها: ـ التهرب الضريبي ـ الاقتراب من الأسواق والسيطرة عليها ـ الاحتكار ـ تقليص التكلفة ـ رخص العمالة ـ تخطي الحواجز الجمركية..الخ، وباختصار أصبح التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي أعلى منه على صعيد الدولة الوطنية، وبتنامي الحجم الاقتصادي لهذه الشركات، تنامى دورها السياسي أيضاً، وأخذت تفرض شركاءها وعملاءها على السلطات السياسية في العالم، لفرض السياسات والحروب التي تناسب مصالحها، والتي لم تعد تطابق مصالح الدولة الوطنية تماماً، وأخذ دور الدول يتقلص أمام سيطرة هذه الشركات، التي وبضغط منها شُنت الحرب على الإرهاب باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بهدف تدمير المؤسسات السياسية والاقتصادية لدول المنطقة (مشروع الشرق الأوسط الكبير) لتوحيد الأسواق وربطها بمركز النظام، والسيطرة على خطوط الطاقة الأساس في العالم.

كيف بدأت أزمة الرهن العقاري الأمريكية؟

في عام 2008 تداعت ما سمّوه أزمة الرهن العقاري إلى أزمة مالية عالمية غير مسبوقة يبحث الجميع عن حل لها كل حسب مصلحته، فما هي؟ وكيف بدأت؟

لفهمها نسوق المثال التالي:

ـ يريد الأمريكي توم أن يشتري بيتاً بالتقسيط، فيذهب إلى المصرف ليأخذ قرضاً، وحتى يضمن المصرف حقه يجب أن يضع إشارة رهن على البيت (لكي يبيعه في حالة عدم السداد) لكن في القانون الأمريكي لا يجوز للمصارف التملك (الرهن يعتبر شكلاً من أشكال الملكية المؤقتة) لذلك أوجدت شركات خاصة تدعى شركات الرهن العقاري تضع هي إشارة الحجز على البيت وتبيعه في حالة عدم السداد، وهذه الملكية المؤقتة أغرت الشركات (بشكل مخالف للقانون) أن تطرح قيمة البيت في البورصة على شكل أسهم باسمها، وبما أن قيمة الأسهم خاضعة لقانون العرض والطلب، فإن قيمة البيت في البورصة انفصلت عن قيمته الحقيقية، وقد تزيد أو تنقص حسب السوق.

من ناحية أخرى وبما أن كل شيء يخضع في أمريكا لمبدأ التأمين، فإن شركة الرهن العقاري، حتى لا تتحمل هي وحدها مسؤولية المغامرة في حالة عدم السداد واضطرارها لبيع البيت الذي قد تنزل قيمته، تلجأ إلى شركة تأمين تتقاسم معها الربح حتى تتحمل هي الخسارة إن وقعت، أضف إلى ذلك أن شركة التأمين هذه، هي وأمثالها من شركات التأمين الصغيرة، تلجأ إلى شركات كبيرة تدعى (شركات إعادة التأمين) تتقاسم معها الربح مقابل تقاسم مسؤولية الخسارة.

الذي حدث أنه نتيجة هرب الرأسمال من العملية الإنتاجية إلى المضاربات المالية كما رأينا تصاعدت البطالة وأدى ذلك إلى عجز ضخم في السداد،أدى إلى إفلاسات متلاحقة لكل تلك السلسلة التي انتهت بالمصارف! حتى بلغ عدد البنوك المفلسة 180 بنكاً.

ما هو العلاج: تدبير سيولة.. من أين؟ عجز ميزان المدفوعات يعني نقص السيولة فهل يمكن طباعة عملة ورقية جديدة؟

إن طباعة عملة جديدة في حالة عدم وجود تغطية ذهبية هي في حقيقتها عملية استدانة من جهةٍ ما، لذا قـُيدت بقيود داخلية وخارجية لضمان التغطية (السداد)، وبالنسبة للولايات المتحدة فالقانون يمنع الاستدانة بأكثر من مجمل الناتج القومي لعام مالي واحد حتى تغطي قيمة هذا الناتج العملة المصدرة، أما القيود الخارجية فهي مرتبطة بمستوى التصنيف الائتماني الذي يؤثر على الثقة بالدولار وبالتالي على الأسواق المرتبطة به في حال انخفاضه، والذي تصدره شركات خاصة تحدد به مستوى قوة اقتصاد الدول والشركات والبنوك.

إذاً، الدولة التي ستصدر عملة تلجأ إلى الدين لسد العجز على شكل سندات على الخزينة تدعى الدين العام، وقد اضطرت الولايات المتحدة للاستدانة من جهات داخلية وخارجية، داخلياً من صناديق التأمينات الاجتماعية، وخارجياً من عدة دول حتى بلغ حجم دينها العام 7,16 تريليون دولار، لكن المشكلة لم تُحلّ بعد.

يطالب أوباما برفع سقف الدين العام مرة أخرى، ويساومه الجمهوريون على تأجيل تنفيذ بند الضمان الصحي في الموازنة الجديدة (مشروع أوباما الجماهيري الذي حمله للبيت الأبيض مرةً أخرى) وبعد أخذ وجذب، تم الاتفاق على رفع سقف الدين بحجم واردات الخزينة الأمريكية خلال 3 أشهر القادمة الباقية من السنة المالية ،2013 ومن الواضح أن الدافع لهذه المساومة من قبل اليمين الأمريكي هو تقليص نفقات الحكومة الأمريكية من حساب الطبقات الأكثر فقراً فيها.

كما أن الدول الأخرى لا تريد انهيار اقتصاد الولايات المتحدة لأنها ستخسر ديونها، مع ذلك لا نستطيع القول أن المشكلة حُلّت! بل أُجّلت، لكن إلى متى؟ من الواضح أنه في الأفق المنظور لم يلح بعد حل للأزمة الأمريكية التي استحالت إلى أزمة عالمية خطيرة، نظراً لعولمة الاقتصاد وتشابك الاستثمارات المالية والبورصات وملكية الشركات.

النتائج السياسية المحتملة للأزمة الأمريكية

إن العجز المالي للحكومة الأمريكية ومستوى الدين العام بدأ يؤدي إلى تقلص حجم الإنفاق في الأقنية التي تعتبر هي أذرع الإمبريالية الأمريكية في تنفيذ سياساتها الاستعمارية على مستوى العالم، وقد بدأت الإدارة الأمريكية بإجراءات تقشف صارمة طالت الجيش والأمن وكثيراً من المصالح الأمريكية المنتشرة في العالم! وسيؤثر ذلك بالتدريج على نفوذها فيه! مما سيؤدي حتماً إلى التراجع التدريجي في النفوذ الأمريكي على مستوى العالم.

ولكن ذلك إذا استمر له نتائج سياسية خطيرة على مستوى العالم:

1ـ انهيار الدول التي تعتمد بوجودها على دعم الولايات المتحدة ما لم تقم بتسويات إقليمية تضمن بقاءها! وعلى رأسها دول الخليج والسعودية وإسرائيل.

2ـ تفكك التحالفات الدولية القديمة وظهور تحالفات جديدة.

3ـ انهيار الثقة بصناديق المال الإمبريالية كـ (ص.ن. د) والبنك الدولي بسبب انكشاف سياساتها في تخريب اقتصاد الدول النامية وفشلهما في مهامهما المعلنة في الحفاظ على التوازن الاقتصادي العالمي.

4ـ اضطرابات عنيفة في دول أطراف النظام الرأسمالي العالمي الأضعف، نتيجة تصدير الاضطرابات المالية إليها من الدول الأقوى، كاليونان، إيطاليا، إسبانيا والبرتغال، إضافة إلى الدول ذات الاقتصاد الريعي (التي تعتمد كثيراً على الاستثمارات المالية)، كإنكلترا وهولاندا.

5ـ إعادة النظر في دور الدولة بمعناها الاقتصادي الاجتماعي لحماية مصالح شعوبها من تقلبات السوق ولتوازن اقتصادها.

6ـ بشائر عصر عالمي جديد متعدد الأقطاب، إما كدول كبرى أو ككتل أو مجموعات اقتصادية، كالاتحاد الأوربي ومجموعة دول البريكس.

تأثيرات الأزمة على الداخل السوري

أما على صعيد الأزمة السورية فإن تراجع دور الدول التابعة للإمبريالية العالمية والتي تنفذ السياسة الأمريكية في المنطقة سيؤدي بالضرورة إلى الانفراج التدريجي للأزمة السورية، نتيجة تقلص دعم المسلحين وتراجع دور عملاء المخابرات الأمريكية في المنطقة وفي الداخل السوري، ثم سيتبع ذلك انفجار أزمات هذه الأنظمة الداخلية، كما يحدث الآن في تركيا وستتبعها السعودية عاجلاً أم آجلاً، أما إسرائيل فستجبر على تقديم تنازلات حقيقية باتجاه السلام.

ونستطيع القول مما تقدم إن الفرق بين الأزمات السابقة للنظام الرأسمالي العالمي والأزمة الحالية أنها أزمة بنيوية لا تحل عن طريق الحروب الصغيرة التي لم تقم بالمهمة المطلوبة، كما أثبتت حربا العراق وأفغانستان ذلك، لأن التكلفة العالية لتلك الحروب دون ضمانات جني أرباح سريعة، كما حدث في العراق وأفغانستان، جعل فريق الصقور الأمريكي يتردد كثيراً قبل شنها، كما حدث في التصعيد الأمريكي الأخير على سورية، كما أنه لم يعد بإمكان النظام حل أزمته عن طريق حرب عالمية ثالثة، فبعد الوصول إلى السلاح النووي أصبح ذلك متعذراً.. بل مستحيلاً، نظراً لنتائجه الكارثية على جميع الأطراف، ونستطيع القول إن حل الأزمة لايمكن أن يتم دون تغيير بنيوي في طبيعة النظام الإمبريالي العالمي، تغيير يعيد الربط بين القيمة الحقيقية للسلعة وبين قيمتها في البورصة، وهذا ما يبدو، على الأقل الآن، مستحيلاً.

فما هو الحل إذاً؟

هل العودة إلى تدخل الدولة على الطريقة الكينزية ستكون كافية؟ أم أن التأميمات الجزئية للمؤسسات المالية المتعثرة ستفي بالغرض؟ وما هي آفاق الصراع بين أطراف هذا النظام العالمي المأزوم؟ هل سيسقط النظام؟ هل ستبتلع الشركات الدول؟ أم أن الدول ستسيطر على الشركات؟ لا يوجد حتى الآن جواب واضح.. لكن الجدل الماركسي يعلمنا أن حل التناقض بين طرفين هو في قانون نفي النفي، أي: ولادة واقع موضوعي جديد، يزاوج بين صفات التجدد في الطرفين المتصارعين ملغياً جوانبهما السلبية التي تجاوزها الزمن، وبذلك يتقدم التاريخ الإنساني خطوة نوعيةً إلى الأمام باتجاه المستقبل، الذي نراه نحن الشيوعيين أنه الاشتراكية والعدالة الاجتماعية لكل البشر.

لكن الثابت الذي اتفق عليه المحللون أن إمبراطورية الدولار في طريقها إلى السقوط، وأن عالماً جديداً متعدد الأقطاب في طريقه إلى الظهور، عالم يفرض القوي فيه شروطه يحاول البحث عن شكل جديد للعلاقات الدولية أكثر توازناً.

29/1/2014

العدد 1107 - 22/5/2024