بذور العنف المقترن بالوحشية ومصادرها

كثيرون مهتمون بدراسة ظاهرة (داعش) يتساءلون في دراساتهم: من أين جاء كل هذا العنف المقترن بالوحشية اللا متناهية؟!

لقد احتل هذا السؤال الجانب المحوري من الدراسات، من زاوية النظر إلى احتفاليات داعش بالعنف الوحشي، من قطع الرؤوس، إلى حرق الناس أحياء، إلى اغتصاب حتى الفتيات القاصرات، في مشاهد صادمة للحس الإنساني.

عندما حقق إرهابيو تنظيم داعش تقدماً في العراق في شهر أيام عام ،2014 طبقوا ما يعد نمطاً من سياسات التطهير العرقي في الموصل، وطردوا المسيحيين الذين فروا إلى مدينة أربيل في كردستان العراق، وذبحوا العشرات من الإيزيديين وهم أقلية قديمة تعيش في شمالي العراق، واختطفوا النساء والفتيات ووزعوهم غنائم على قيادات التنظيم.

لقد كان من الواضح أن احتفالياتهم بالعنف يرونها- حسب عقيدتهم- سلاحاً لبثّ الرعب بين سكان المناطق التي يريدون السيطرة عليها ولفت نظر الإعلام إليهم، لكي يبقوا مادة دسمة على شاشات التلفزة العالمية وشبكات الإنترنت، كجزء من المنافسة مع المنظمات الإرهابية الأخرى، ولاستثارة نزعة العنف لدى أفرادها، فيجدون رغبتهم في إطلاق هذه النزعة لدى داعش.

وفي إطار الأبحاث عن العنف عند داعش، ظهرت تفسيرات تحاول الإجابة عن السؤال الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث، وهو من أين كل هذا العنف المقترن بالوحشية؟

بعضها يرى أن داعش الإرهابي صناعة أمريكية – صهيونية مشتركة، الهدف منها نشر الفوضى في الدول العربية، وإضعاف مؤسسات الدولة ثم هدم الدولة ذاتها.. ويرى أصحاب هذا التفسير أن وجهة النظر هذه هي المنتشرة والسائدة في الدول العربية، وأن المقتنعين بها يستندون إلى نظرية الفوضى الخلاقة التي ورد ذكرها على ألسنة مسؤولين أمريكيين منهم كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في إدارة بوش.

البعض يرى أن داعش تجسد مؤامرة ووسيلة لتهميش الإسلام والإساءة إلى قيمه الإنسانية ودعوته إلى السلم الأهلي والتعايش المشترك..

ولكن التفسير الذي يظل أكثر شيوعاً وانتشاراً هو أن داعش ظاهرة أجنبية لا تنتمي بالأساس إلى المجتمعات العربية بمبادئها وقيمها الأخلاقية، ولا إلى الإسلام ذاته، فهي غريبة عن كليهما. وإذا كانت بعض التنظيمات المتطرفة ترفع راية الإسلام وتقتل الأبرياء وتدمّر الحياة البشرية بكل مستلزماتها ويقتل بعضها بعضاً على غرار داعش والنصرة وأحرار الشام وتفرعاتها المختلفة الأسماء، فإلى أي إسلام إذاً ينتمون؟ لا شك أنهم دخلاء على الإسلام دين التسامح والمحبة.

البعض من الدارسين المهتمين بهذه الظاهرة، ومنهم البروفيسور فايكن شيشتيريان من جامعة جنيف الذي صدر له كتاب (الجراح المفتوحة.. الأمريكيون والأتراك وقرى من القتل العمد) يقول في دراسة نشرتها المطبوعة الفصلية (سيرفايغل) التي تصدر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في لندن: (إن النظرة من خلال الإطار الاجتماعي السياسي سوف تُظهر لنا تطور السلفية الجهادية (وهو تعبير توصف به المنظمات الإرهابية)، باعتبارها أيديولوجية جديدة توفر المبررات والدوافع للذين يخططون لارتكاب أعمال عنف). ويضيف شيشتيريان في دراسته قائلاً: (إن السلفية الجهادية التي ظهر منها علناً دعاة ونشطاء في مصر في فترة حكم الإخوان المسلمين قد نشأت كأيديولوجيا جديدة في قلب آسيا بعيداً جداً عن العالم العربي. بمعنى أن ظهورها جاء معبراً عن بيئة لها قيمها وتقاليدها التي تختلف عن واقع الدول العربية ومعرفتها بجوهر الإسلام وتعاليمه، وأن السلفية الجهادية باعتبارها حدثاً عابراً في التاريخ، قد تصدى لصياغتها الفلسطيني عضو جماعة الإخوان المسلمين عبدالله عزام أثناء وجوده في جبال أفغانستان وباكستان في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي).

هناك في أفغانستان أنشأ بن لادن تنظيم القاعدة الذي ساعد على انتشار جو الفوضى في دول فاشلة، فقد أكدت التجربة أن الدولة الفاشلة هي البيئة الحاضنة للفوضى والإرهاب، وهو ما تكررت صورته في العراق عقب الغزو الأمريكي له عام 2003.

ومن داخل العراق آنذاك ظهرت جماعة متطرفة تتبنى العنف المفرط أسسها أبو مصعب الزرقاوي، قائد ما سُمي تنظيم القاعدة في العراق، وهو أردني الجنسية، سافر إلى أفغانستان عام ،1989 وبعد عودته وبناء على نشاطه الإرهابي، سُجن ثم أُفرج عنه عام ،1999 ليسافر من الأردن مباشرة إلى أفغانستان. وبعد أحداث 11 أيلول 2001 ذهب إلى شمال العراق وأسس تنظيم التوحيد والجهاد الذي كان النواة التي خرج منها تنظيم داعش الإرهابي فيما بعد، وحدد أولوياته في محاربة الأنظمة العربية والشيعة باستخدام العنف بلا حدود، إلى أن قُتل عام 2006.

وفي بداية الحرب الإرهابية في سورية عام 2001 ظهرت مجموعة من أنصار الزرقاوي إلى جانب العديد من المنظمات المتطرفة، بدءاً من الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في مصر، وجماعات السلفية الجهادية.. آنذاك كانت مجموعة الزرقاوي تحصل على مساعدات من جبهة النصرة الإرهابية التابعة للقاعدة، لكنها – أي مجموعة الزرقاوي- أعلنت فجأة انفصالها تحت مسمى (داعش في العراق) إلى أن أعلن أبو بكر البغدادي في نيسان 2013 تأسيس داعش الذي امتد نشاطه الإرهابي إلى سورية ولبنان والعراق وفيما بعد إلى مصر وليبيا والجزائر وغيرها من الدول.

ومن هنا، مع تصعيد داعش لكل أساليب العنف الوحشي وبلا حدود، استطاعت أن تستثير نزعة العنف لدى تنظيمات إرهابية في دول عربية أخرى.

باختصار إن هذا التطور لبذرة العنف غير المحدود التي نمت حتى وصلت إلى أشكال غير مسبوقة من الإجرام، يؤكد أن داعش الإرهابي جمع في صلبه مختلف نزعات التطرف والعنف والوحشية، واستقطب على أساسها وعن طريق الإغراءات المادية العالية والدعم الذي تلقاه من دول عربية، في مقدمتها قطر، ومن تركيا، راح هذا التنظيم الإرهابي يمارس أمام الكاميرات صنوف القتل والذبح والحرق وبيع الفتيات بشكل احتفالي يقدم به نفسه للعالم، مشوهاً بذلك صورة الإسلام ودعوته للرحمة والوئام، بشكل منفصل تماماً حتى عن الفطرة الإنسانية

العدد 1105 - 01/5/2024