العلاج القويم للمرض «السليم»

مثلما هناك أمراض متجذرة مسرطنة تأخذ مداها ونهايتها غالباً الاستئصال أو الموت الجسدي، كذلك هناك أمراض عادية يسيطرَ عليها وهناك أمراض متوهّمة لجسم سليم، وكذلك بالنسبة للاقتصاد فهناك أمراض بنيوية يجب العمل على استئصالها، وهناك أمراض قوية يمكن علاجها قبل أن تصبح بنيوية، وهناك بنى سليمة قد يتوهم الناظر مرضها وقد يدعي المرض للآخر مع العلم بأنه ذو صحة سليمة. لا يمكن لأي عاقل أن يعارض معالجة مرض جسدي أو اقتصادي، ولكن لا يستطيع أحد أن يثبت لعاقل وجود المرض في جسم سليم، أو تيئيسه من العلاج لمرض بسيط عابر. لبّ ما مضى وجوهره هو أسّ الصراع الفكري والأيديولوجي في العقدين الأخيرين في بلدنا، وخاصة فيما يتعلق بالقطاع العام وتشخيص واقعه ومشاكله، وقد تباينت الرؤى بين أكثرية ومن ورائها أحزاب ومؤسسات ترى أن القطاع العام مخسَّر وليس خاسراً، وأن هذا التخسير هو لمصلحة قلة يريدون إما خصخصته أو منعه من التصنيع أو الإنتاج لاستيراد البدائل المربحة لهم أو لمشاركتهم لأجزاء منه، أو لسحب خدمات كان يقدمها، وهذا الأسلوب أقرب إلى السرقة المقوننة والإضعاف المقصود لدور الدولة، الأقدر على إدارة العملية الاقتصادية والإدارية، واعتراف ضمني من قبل هؤلاء بقوة هذا القطاع وأهميته. وما زاد من قيمة هذا القطاع وفائدته وقوته ما تعرض له من تدمير، بعد ما مورس تجاهه، ومدى الحاجة الماسة له في الظروف الآنية ومدى الخدمات التي كان سيقدمها لو وجد بقوته، وخاصة كلنا يتذكر كيف أن هذا القطاع هو ما أوصلنا إلى قمة الذروة الاقتصادية وأوصلنا إلى الأمن الغذائي، وواجهنا به الحصار الاقتصادي في فترة الثمانينيات، ولم نعد نفاجأ بمن كان ينادي للخصخصة أو من طالب بإعادة الاعتبار لما أُمّم بالستينيات ومنع أي تأميم قادم، ولم نعد نستغرب أن تدخل مئات المليارات إلى جيوب القلة، وكذلك موقفهم مما يجري واستمرارهم بالنهب والسلب واللعب على المكشوف.. ولكن ما يجري أعاد إلى الأذهان ماذ كان يجري، وكذلك الحاجة والضرورة الحتمية لإعادة الاعتبار لهذا القطاع، لتستطيع الدولة توجيه دفة الاقتصاد بما يخدم استقرار البلد وقوته، ويستثمر الإمكانات بأقصى الحدود لما يختصر الوقت ويضبط المجتمع ويسير بالتنمية إلى الأمام بعدالة وباستقلالية وتوازن ، رغم كل ما سبق نستطيع القول: لم يكن الصراع الفكري أو الأيديولوجي بين من يريد احتكار القطاع العام لكل شيء، وبالتالي إقصاء الخاص، وبين من يريد السيطرة للخاص فقط، وذلك لأن العقلية الاقتصادية العائمة كانت ترى أنه لايمكن السير بالاقتصاد نحو التنمية المستقرة المتوازنة المستقلة من دون الاستثمار الأمثل للموارد المختلفة البشرية والمالية والمادية، سواء امتلكها الخاص أو العام، فالاقتصاد السوري لا يمكن أن يسير من دون تعاون متعدد بين الجميع ، بما يعطي نتائج تنعكس على الكل بما يحقق عدالة وتطوراً، ولكن الذي كان هو محاولة قلّةٍ الاستئثارَ بكل مفاتيح الاقتصاد على حساب قوة الدولة وقتل القطاع العام وتكديس الثروات، ولو أدى ذلك لقتل البلد وشلّ اقتصاده والقضاء على الصناعات والحرف وتقليل الموارد، ولو أدى لعجز يُسَدْ بضرائب ورسوم تنهك المجتمع. لم يكن أحد ضد استثمارات تحسّن الجودة للخدمات القائمة وتصل إلى أرخص الثمان عن طريق المنافسة، ولكن الذي كان الأغلبية ضده أن ما جاء به هؤلاء هو نمو فقاعي لا يزيد الطاقات الإنتاجية وإنما يغير معادلة توزيع الثروات  فإما استيراد لاحق لنشر ثقافة استهلاكية مترافقة بتسهيلات مصرفية أو مالية وتأمينية على حساب ما يقدم من القطاع العام، أو بفرض الخدمات على شرائح من المواطنين من دون استطاعة هذا المواطن أن يرفض الاشتراك أو يشتكي لسوء الخدمة، وكلنا سمع بشركات التأمين وما نجم عنها من رفض وتذمر، وما يلفت النظر أن إحدى الشركات المحدودة المؤدية للخدمة يملكها شخص من دولة مجاورة مشهور بالكره والحقد والتصريحات النارية، ومع ذلك ظل محافظاً على شركته وعلى المزايا الفريدة المحتكرة له ولقلة.. وكلنا يذكر موضوع محطة الحاويات وما رافقها من اعتراض عام، فوقف النائب الاقتصادي السابق وقال إنه هو السلطة التنفيذية وهو من يقرر ويفرض قراراً رُفض من كل المؤسسات والمنظمات، وتستمر هذه المحطات رغم مخالفتها العقود وعدم إضافتها شيئاً جديداً، علماً أن البنية التحتية والكوادر وحتى الزبائن كانوا سابقاً ولم يتغير شيء. وإحدى الشركتين المنفذة للعقد في مرفأ طرطوس هربت وتركت المحطة واستمر العمل ولم يتأثر شيء. وكذلك ما لحق بالمؤسسة العامة للتوكيلات من سحب الأعمال الموكلة لها لتمنح لبعض الأشخاص من القطاع الخاص  كمزايا بشروط وقوانين مرنة ومراعاة وإغماض الأعين عن الكثير من المخالفات، ورغم كل ذلك تستمر المؤسسة وتحقق أرقاماً إنتاجية أعلى من الخطط، وتؤدي دورها باقتدار في ظل الظروف التي أثبتت ضرورة وجودها وضرورة تطويرها وإعادة الاعتبار لها، بإلزام الوكالات الخاصة بالتعرفة المحددة من قبل الوزارة، وأن تكون الشركة وكيلاً حصرياً لكل السفن التي تحمل بضائع القطاع العام، وتعديل القوانين لكي تسمح لها بالمنافسة الحقيقية مع القطاع الخاص، وتوكيل الشركة ببضائع القطاع العام التي هي ضمن حاويات، وإتاحة المجال لإضافة خدمات متكاملة كنقل البضائع وتخليصها، وخاصة ما يتعلق بالقطاع العام، هذه الشركة التي توظف 400 موظف. وهذه أمثلة من قطاعات رابحة موظفة سحبت الخدمات منها لتعطى على طبق من ذهب لبعض الأشخاص على حساب مئات الأسر، ولتخسر موازنة الدولة مئات الملايين، ولتقتل آلاف فرص العمل المتممة.. إن الاستثمار الأمثل هو الغاية للوصول إلى ما نريد، ولا يكون هذا إلا بتعاون كل القطاعات العام والخاص والمشترك.

إن تحييد أي قطاع أو قتله سينعكس سلباً على توازن المجتمع، وهو ما وجدناه.. وبالتالي لا بد من مراجعة دقيقة وصحيحة لكل هذه الإجراءات ولكل انعكاساتها، إن كنا نريد الانطلاق الجديد نحو وطن معافى قوي يشفى من العلل وينطلق بقوة نحو المستقبل، وهو ما يجعلنا بحاجة إلى كل الجهود وتسخير كل الإمكانات، وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بإدارة اقتصادية حكيمة قوية فاعلة لا تحابي أياً كان سوى الوطن وقوته وشفائه، ولا يتم ذلك إلا بتكامل الجهود بمنافسة حقيقية وتشاركية عادلة وإدارة حكيمة واعية يسيّرها القانون ومسؤولة أمام الوطن عن نتائج أعمالها.

العدد 1107 - 22/5/2024