الثقافة المهزومة دائماً

 في مجتمعاتنا التي تعاني من الضبابية وعدم الوضوح والمواربة وكثرة الأقنعة المزيفة لدرجة المرض في الكثير من المفاهيم الأساسية، وخاصة في الدين والسياسة، وفي الأمور الإدارية والتنفيذية للسلطات بأنواعها، كلنا نتمنى أن تكون الحالة الثقافية وما يندرج ضمن إطارها من فكر وآداب وفنون شاهدة حقيقة على الواقع، تعمل على إظهاره بما يكون فعلاً دون انحياز إلى المجاملة والمحاباة والتأييد لمراكز القوى التي نخشى مواجهتها، وأن تكون في الوقت نفسه غير منحازة لرفض هذا الواقع لمجرد الرفض فقط، دون سبب مقنع ، ودون مبررات حقيقية.

المطلوب من المُفكِّر أن يكون شاهداً على عصره بشكل محايد ومنطقي، وبكل مصداقية وموثوقية، ولكن المشكلة هي أنَّ هذا المفكرُ بينما يكون منهمكاً في إعداد فكرته التي تراوده ذهنياً لنقلها إلى الورق أو المنابر أو أجهزة الإعلام، سرعان ما يصطدم أولاً بموضوع الشأن السياسي للسلطة الذي لا يستطيع أن يتجاوز خطوطه الحمراء، خشية أن يحرك عليه عش الدبابير، أو يصطدم بالشأن الديني وتقاليده الموروثة اجتماعياً، وهو لا يستطيع أن يناقضه أيضاً، خشية أن يلامس بيوت العناكب المزمنة في زوايا العقول فتلدغه، لذلك يعجز هذا المفكرُ أن يكون شاهداً صادقاً دون أن يستعمل طريقة اللف والدوران حول الفكرة، فتبقى إنجازاته مبهمة ضبابية، تحتمل التفسير والتأويل من قِبَلِ المتلقي، وتبقى الحقيقة ضائعة والشاهد لم يحضرْ بعد.

علاقة السياسة بالفكر، وعلاقة الدين بالفكر، هي علاقة متوترة دائماً، علاقة مراوغة واختباء خلف الممنوع والمسموح، علاقة تأجيل الفكرة التي تراود المفكر، وبدلاً منها إظهار فكرة أخرى أقل حساسية وأقل مواجهة ومجابهة، ومن هنا سيبقى الفكرُ سلبياً، يدلي المفكرُ بفكرته ثم يذهب للاختباء في صومعة بعيدة كما في الفلسفة البوهيمية، وكل أجناس الآداب والفنون هي أفعال سلبية، وإن كانت تدعو إلى التمرد على الواقع وتدعو إلى تغييره، فهي سلبية لأنها ليس لها قوة التغيير فعلاً، وتبقى ضمن إطار الدعوات والنداءات فقط، وتبقى مهزومة في صراعها ضد القوى المسيطرة دينياً وسياسياً، والعادات والتقاليد، وعلى سبيل المثال كم ظهرت من دعوات وأفكار من المفكرين القوميين منذ أكثر من قرن من الزمان وما تزال مستمرة، كدعوات النهوض بالقومية العربية ودعوات للتطور والتقدم ومواجهة التخلف العربي، ولكن تلك الأفكار والدعوات لم تستطع تغيير أي شيء من الواقع رغم مرور زمن طويل عليها.

 بالتأكيد يستطيعُ المفكرُ الحقيقي ذو الثقافة الصحيحة أن ينتقد السلوكيات الاجتماعية والسياسية والدينية، عندما يكون مدركاً فعلا للأخطاء الموجودة في هذه السلوكيات، وعلى معرفة حقيقية بها، حتى وربما تكون لديه المقدرة على وضع الحلول المناسبة للتصويب، ولكن يا للأسف ستبقى أفكاره بلا تأثير، لأن هناك قوى تدير هذه السلوكيات لا يستطيع مواجهتها، ويبقى ضعيفاً أمامها، وهذا الصراع مستمرٌّ بيت تلك الجهات القوية التي تفرض نفسها، والفكر والأفكار التي تنادي بالتغيير والتنوير نحو السلوك الصحيح.

في محاولة التعبير عن مجريات الأمر التي تحدث، يوجد نوعان من النتاج الثقافي، نوعٌ يعيش تحت جناح السلطة يصفقُ تأييداً لكل شيء، ونوع يعيش خارج هذا الجناح يشتمُ معارضاً كل شيء، فلا يوجد نتاجٌ وسطي يعارضُ الخطأ ويصفقُ للصحيح في الوقت نفسه، ومن يعتبر نفسه وسطياً لا بد أن تكون معاييره منحازة إلى أحد النوعين، إن كان يدري، وإن كان لا يدري، وكل هذا سيجعل الثقافة بمنتجاتها المتعددة بعيدة في أن تكون شاهداً حقيقياً على العصر، وتبقى الحقيقة ضائعة دون توثيق، مع أنها موجودة فعلاً في ذاكرة الأغلبية، دون إظهارها علناً، وتصير الثقافة فعلاً مراوغاً موارباً منتقاة ومغربلة لصالح اتجاه معيَّن، أو تصير كسلعة مادية قابلة للبيع والشراء لمن يدفع سعراً أعلى من أولياء الشأن.

عندما يريد المفكرُ رسم الصورة الحقيقية للواقع، فإنه سيستخدم الممحاة أكثر مما سيستعمل القلم، فيمحو شيئاً من هنا، وشيئاً من هناك، مما يتعلق بالمحظورات، لأن أغلب أجهزة الإعلام أو دور الطباعة والنشر والصحف والمجلات، وحتى وسائل النشر الإلكتروني، تشترط على من سيتعامل معها على عدم الولوج في أشياء كثيرة، لذلك لا يمكن رسم صورة صحيحة للواقع، وتبقى أي صورة ناقصة، وربما سيُقالُ في النقد بعد ذلك إنَّ هذا المفكر لا يقترب من المصداقية، وينكرون الممنوعات التي عرقلتهُ في إظهار الحقيقة.

كل مفكر يتمنى أن يستخدم المرآة الصافية العاكسة التي تُظهِرْ للمتلقي الأمور على حقيقتها كما يجولُ في فكرهِ تماماً، إنما دائماً هناك من يمنعهُ بشتى الأساليب، ويفرضُ عليه أن يعكس المرآة لبعض الزوايا الضبابية المبهمة من الواقع، أو باستخدامها في الأماكن المعدة مسبقاً، والمبالغ في تشذيبها وتهذيبها، فتظهر صورة المديح والثناء والتأييد لواقع فاسد، بينما يبقى الفساد غير ظاهر في القسم المظلم من الصورة التي لا يسمح أولياء الأمور بإضاءتها أكثر من حدود معينة.

هذا هو المفكرُ، وهذا هو الفكرُ المهزوم دائماً.

العدد 1107 - 22/5/2024