الأدوار الخفية للمصارف المركزية خلال أزمة الاقتصاد والمال

يقدّم نيل إروين، الصحافي في (واشنطن بوست) الذي غطى عمل مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي (المركزي) خلال أزمة الاقتصاد والمال العالمية، في كتابه (الخيميائيون: ثلاثة حكام لمصارف مركزية وعالم يحترق) (صادر عن (بنغوين برس)، رواية متكاملة عن المرحلة العصيبة التي شهدها حكّام المصارف الثلاثة خلال الأزمة – بن برنانكي وجان كلود تريشيه، وميرفين كينغ – ومساعيهم لمنع النظام المالي الرأسمالي من الانهيار، ويضيء بشكل خاص على (تقارب في ما بينهم غير معهود كثيراً في أوساط السياسيين).

وفيما اعتمدت كتب كثيرة تناولت أداء المسؤولين السياسيين في خضم الأزمة، خصوصاً وراء الكواليس، على روايات شهود بشكل أساسي، قام إروين بعمل مختلف، إذ أجرى مقابلات مكثفة مع الحكّام الثلاثة، ومع كثيرين من أعضاء مجالس المصارف المركزية التي يرأسونها، كما اطلع على كثير من المحاضر الخاصة بهذه المجالس، العلني منها والسري، فجاء كتابه غنياً بمصادره، علماً بأن لغة العمل مبسطة وبعيدة عن التعقيدات التقنية، ما يجعلها في متناول القارئ العادي.

ويسلط (الخيميائيون) ضوءاً على أسرار المصارف المركزية الثلاثة و(شد الحبال) السياسي الذي يترافق مع قراراتها وتعييناتها، على رغم أن هذه المؤسسات يجب أن تبقى (نظرياً) فوق الخلافات السياسية في بلدانها، خصوصاً الخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين المحتدمة منذ سنوات في الولايات المتحدة، والخلافات بين الدول الأعضاء في المصرف المركزي الأوربي، التي احتدمت لدى تعيين ماريو دراغي، الحاكم الحالي، خلفاً لتريشيه.

تطورات غير معروفة

في عمل إروين روايات لتطورات غير معروفة على نطاق واسع، فمع الامتعاض الشعبي الذي أثاره إنقاذ مؤسسات مالية متعثرة بأموال دافعي الضرائب في الولايات المتحدة في عام 2009 مثلاً، صبّ الجمهوريون والديوقراطيون معاً جام غضبهم على مجلس الاحتياط الفيدرالي، وحاول كريستوفر دود، الرئيس الديمقراطي لمجلس الشيوخ آنذاك، وضع مشروع قانون يحرم المجلس من سلطته في تنظيم القطاع المصرفي. وضغط رون بول، النائب الجمهوري البارز، من أجل إقرار تشريع يخضع المجلس لتدقيق محاسبي.

وبدعم من القطاع المصرفي الواسع النفوذ، ومن تيموثي غايتنر، أول وزير للخزانة في عهد أوباما، أفشل برنانكي مسعى دود، وتمكن من تعديل تشريع بول بما يتناسب واستقلالية مجلس الاحتياط الفيديرالي. وعلى رغم أن كتاب إروين يناقش تداعيات الأزمة العالمية على منطقة اليورو وبريطانيا بتفصيل كبير، يحتل تعامل مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي مع الأزمة وتداعياتها أمريكياً الموقع الأبرز في الكتاب. ويميل الكاتب عموماً إلى التعاطف مع برنانكي ومساعيه إلى ابتكار وسائل جديدة لضخ أموال في شرايين الاقتصاد الأمريكي، على رغم أن الكتاب لا يخلو من انتقادات للرجل وسياساته.

يقول إروين: (على امتداد قرن من الزمن تقريباً، عمل مجلس الاحتياط الفيدرالي ملاذاً أخيراً للمصارف الأمريكية، حين تحتاج إلى قروض. لكن خلال ثلاثة أشهر (بعد بدء الأزمة في أيلول (سبتمبر) 2008 إثر انهيار مصرف (ليمان براذرز)، وسّع المجلس دوره ليشمل المصارف التي تتخذ من أوربا مقراً رئيساً، والمؤسسات القائدة لعالم الاستثمار في وول ستريت).

لا شك في أن إروين يتعاطف مع الموقع الوسط في السياسة الأمريكية، فهو يؤيد الدور المعطى تقليدياً لمجلس الاحتياط، ويجعل من برنانكي ثانياً في لائحة الحكّام التاريخيين للمجلس، بعد بول فولكر، المحاط بهالة تقديس، بعدما تعامل بحكمة مع أزمات الاقتصاد في السبعينيات والثمانينيات، في ظل الرئيسين جيمي كارتر ورونالد ريغان. ولذلك لا يرى الكاتب ضيراً في التدخل الذي مارسه برنانكي في شؤون المصارف الخاصة واعتبره كثيرون من اليمينيين مفرطاً.

ولا يبدي الكاتب أيضاً تعاطفاً مع مقولات اليساريين، خصوصاً بول كروغمان، الأكاديمي الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، والمعلق في صحيفة (نيويورك تايمز) الذي يهاجم باستمرار سياسات التقشف في دول منطقة اليورو، ويتهم برنانكي بعدم التصرف لمكافحة الركود في الولايات المتحدة خلال السنة الماضية، تحت ضغط من الجمهوريين.

وفيما يقرّ إروين بأنه لم يختر عنوان كتابه عبثاً، فالخيمياء لم تنجح في تحويل أي معدن إلى ذهب، لكنها تمكنت من التوصل إلى منتجات مفيدة، وبالتالي لم يحقق الأبطال الثلاثة لعمله نجاحاً كاملاً، يقول: (لا يزال اقتصاد العالم في أزمة، في العام الخامس على بدء الأزمة، لكن الأسوأ لم يحصل، فالقوى الاقتصادية العظمى لم تتخاصم، وعقد أوربا لم ينفرط، إذ انحصر الركود في اليونان وإسبانيا… ولم تكن الكارثة التي تجنبها العالم أمراً بسيطاً).

 

عن (الحياة)

العدد 1107 - 22/5/2024