عطش القلوب.. وجوع البطون

ليس كل من وضع رائحة طيبة، بانت رائحته، ولا كل من دهن جسده بالعسل والحليب تغيرت طباعه، فالثعالب تبدل فراءها ولا تغير طباعها.

ولا كل من أكل هضم، ولا كل من هضم طعامه حوّله في دمه وأعصابه إلى نوايا حسنة، وأخلاق نبيلة.

ومن يكبر سريعاً، سيتلاشى على نحو أسرع، ومن يزرع ذراعيه بريش النسور لن يستطيع الطيران والتحليق إذا لم يكن قلبه في الأصل مزروعاً بالشجاعة والطموح، وحب المغامرة.

وتكبر الجواميس، وتسمن النعاج، إنما تفكيرها يبقى مشغولاً بأكل الأعشاب ورعي الحشيش، ونفوسها وقلوبها مشغولة دائماً بالرعب والخوف من الذئاب وسباع البراري.

وتحمل الدواب كل شيء ثقيل، وبالمقابل لايثقل عقلها بما تحمله.

(وليست القبائل والعائلات بعدد أفرادها، بل بتعداد رجالها، فما أكثر الذكور، وما أقل الرجال!).

إن المبصر البصير قد يقود ألف أعمى، وألف أعمى لا يمكنهم أن يقودوا بصيراً واحداً.

وما أثقل الكلمات حين تكون موزونة، وما أخفها حينما تكون ثرثرة لا هدف لها ولا معنى، وهمّ أصحابها القول لا الفعل.

إن روعة الكلمات، حين تكون موزونة، وذات هدف ومعنى، أنها لا تؤثر في الجميع بالطريقة نفسها، فمن الناس من يفهمها، ومنهم من يحسها، ومنهم من تمر فوق رؤوسهم مرور الكرام، ومنهم من يشمها، ومنهم من يأكلها.

ومثلما يلقح البرق الغيوم فيولد المطر، وتلقح الريح البحار فتولد العواصف والأعاصير، هكذا هي الكلمات الكبيرة، الخصبة، والولود، تتزاوج مع غيرها من الحروف فتنجب رجالاً يحفزهم الخوف على الإنسان، وهمّهم الدائم رفع كرامته عالياً.. ومنها ما ينجب أطفالاً، همّهم اللهو واللعب، والضحك والتلاعب بعقول الآخرين.

يقال: إن الجذور دائماً يكون اتجاهها نحو الأسفل، والرؤوس نحو الأعلى، لكن أحياناً تنقلب الموازين، فيصبح الرأس مدفوناً في التراب، والذيل مرفوعاً في الهواء.

هكذا حال الكلمات الموزونة، والكبيرة التي تقال أحياناً في غير وقتها ومكانها، فالحكمة من الكلمة أن تقال في أهلها وبين أصدقائها. فكلمة كبيرة في غير مكانها تشبه صخرة عظيمة ركّبت ووضعت في أعلى القلعة، وهنا يكون خطرها أعظم من إفادتها. فلو وضعت تلك الصخرة في أساس القلعة لكان مكانها عظيماً، ولكان صمود القلعة من صمودها.

وكما أنه لا يمكن للطائر أن يطير دون جناحين، كذلك هي الكلمة الكبيرة، الثقيلة والجميلة، لا يمكنها أن تكون كذلك إلا إذا قيلت في وقتها ومكانها، وبين أهلها.

وإذا وقع الكلام الثقيل الموزون في القلوب الكبيرة، والعقول النيرة، برعم وأزهر وأثمر، وإذا سقط على العقول المغلقة، والنفوس الضيقة، ازدادت العقول انغلاقاً، والنفوس صارت أكثر ضيقاً.

وما أقل الذين تجوع عقولهم وقلوبهم إلى سماع الحكمة، وهضم المعرفة، وما أكثر الذين تجوع بطونهم إلى اللحم والطبيخ!

العدد 1105 - 01/5/2024