أعراس وطن

الأعراس لا تنتظر زمن السلم، للحرب أعراسها ومهرجاناتها وزغاريدها..

السوريون يحتفلون، صدِّق أو لا تصدق.. إنهم يحتفلون، وأنت تشهد احتفالاتهم بنفسك كل يوم.. ربما تشارك فيها أحياناً وتنسى بيتك المتروك للصوص وشذاذ الآفاق الذين جعلهم الحديد القاتل في أيديهم سادة وأمراء حرب.

أعراس الوطن كثيرة ومتنوعة، أعراسٌ صغيرة تكاد تنحصر في زقاق أو حي أو حتى منزل تجتمع فيه عائلات عدة، وهي أعراس مهملة، لا يسمع بها إلا المحتفلون وبعض الجيران وعابري الفرح، وأعراس كبيرة تجتاح ساحات المدن وشوارعها الرئيسية، وهي أعراس مخطط لها وتسلط عليها الأضواء وتنقلها الشاشات ويتنطع لها المحللون بالتحليل والتركيب والقراءة والكتابة والإملاء…

ما لنا وللكبيرات، سنقف عند الأعراس الصغيرة فحسب…

***

مع تكرار ساعات انقطاع الكهرباء وامتدادها لتحتل أحياناً معظم ساعات النهار، ومع توفر التبريرات لكل حالة، بل التبرير الوحيد والمنطقي، وهو أننا بحالة حرب، واحمدوا ربكم على أنكم ما زلتم تنعمون بنعمة الكهرباء، تبدأ أفراح المواطنين، والصغار منهم تحديداً، مع أول لمعة مصباح تشي بعودة التيار، فيشتعل الصراخ وآهات الفرح للأولاد الخارجين من حرّ منازلهم إلى الشارع، الملاذ الوحيد لأبناء الفقراء، طبعاً كل الحكاية تجري في أحياء الفقراء، فالمترفون مشكلاتهم محلولة مع كل ذيول الأزمة.

تلجأ العائلات إلى الجلوس على عتبات المنازل، يشربون المتة  أو الشاي مع بزر دوار الشمس لمن استطاع إليه سبيلاً بانتظار عودة النور، في حين (يفلتون) أطفالهم في الشارع ليتنفسوا قليلاً خارج ظلمة البيت وحرارته، هؤلاء الأطفال تحديداً هم من يحيي العرس الكهربائي العظيم كل ليلة، بل كل التماعة لمبة.

إذاً، للفرح مكان هنا، فيا من تقطع الكهرباء، لا تتأخر في إعادتها، لتزيد أعراس الوطن..

***

أما الماء فسيرةٌ مختلفة، تطول ساعات انقطاعه في بعض الأحياء لتصبح أياماً أحياناً، وينتظر الناس بعد أن يستبد بهم العطش واليأس من جريان الماء في أنابيب بيوتهم، وغالباً ما يأتي الفرج عند الفجر، فتلعلع أصوات المضخات الكهربائية على أنواعها وأحجامها وأسمائها، ويهب الناس هبة رجل واحد، يتفقدون خزانات المياه على أسطح المنازل، وتفتح سير وقصص وحكايات بين الساهرين على تأمين بعض الماء لمنازلهم قبل أن تعود الأنابيب إلى الجفاف، في خضم هذا الجو الاحتفالي المهيب، وفرح الناس ب (مطر الأنابيب الرفيع) حسب تعبير الشاعر الباقي محمود درويش، تولد قصص حب بين صبية تطلب مساعدة جار شهم وجار مستعد للتضحية بروحه من أجل تعبئة خزان منزل ليلى تاركاً منزل أهله لحين الانتهاء من واجبه العاطفي، ويتذكر الكبار خروجهم مع الفجر إلى الحصاد، ثم تنطلق حناجرهم بأغاني الحصاد والبيادر والسنابل الواعدة بالخير. 

عرس الماء مبلل بالوعود مادامت العروس ماء…

ثم، ما يلبث الظامئون أن يعودوا إلى ظمئهم، بانتظار عرس قادم، عرس وطني صغير.

***

نمط آخر من الأعراس يمكن أن نسميها الأعراس المتنقلة، وهي الأعراس التي تنعقد على حين غرة في مواقف السرافيس الرئيسة، حين يأتي السرفيس أو الباص وهو يفتح أبواقه ليبتعد الركاب المنتظرون عن طريقه، يتدافع الناس بين هارب من وحش الحديد القادم بسرعة جنونية، ومغامر يحاول الإمساك بمقبض باب الأمل، باب السرفيس، ليصبح أول الداخلين إلى جنته، لتبدأ فواصل رقص متعدد المشارب والأنماط، وريثما يستقر السرفيس في مكانه يمسح الدّبيكة الذين بقوا على الأرض عرقهم وعيونهم ترنو إلى البعيد بانتظار قادم آخر، بعد أن خسروا معركتهم، لكنهم لم ييأسوا، خسارة معركة لا تعني خسارة حرب.

 فيما يكمل الذين صاروا في الداخل أعراس الصراع على الكراسي والممرات، ويصدح صوت مسجلة السائق ب (هاجر، والحاصودي، واسمع بس اسمع…) لكن لا صوت يعلو على صوت معركة الكراسي، ثم ينجلي الغبار أخيراً عن فائزين بالكراسي، ولائذين بالممرات، وفي كلٍّ خير…

هناك المزيد منها ما لايتسع المجال لذكره، أعراس الخبز والمازوت والإعانات، التي توزعها مراكز الهلال، والصليب الأحمر، والجمعيات الخيرية على شعب التيه السوري، وأعراس جوازات السفر، والحجز على طائرة القامشلي، وغيرها من أعراس هذا الوطن الموعود بفرح ما في زمن ما…

العدد 1107 - 22/5/2024